عندما زار ابن بطوطة مدينة دلهى وجدها خالية، لا اطفال يلعبون ولا شرفات مفتوحة، تساءل الرحالة الكبير عن اهل المدينة، فعلم من الحراس،أن محمد طغلاق السلطان المغولي، قد أمر بترحيل الشعب كله. رفض اثنان المغادرة أحدهما أعمى والاخر أعرج فأمر طغلاق بأن يوضع الأعرج فى منجانيق ويقذف خارج المدينة وان يسحل الأعمى الى الموقع الذى امرهم بالانتقال اليه، بعد هذه الواقعة ترك المترددون متاعهم وفر الشعب بأكمله من المدينة ، كان طغلاق فارسا قويا سخيا وعالما وفقيها وفلكيا قديرا، إلا أنه كان قبل كل هذا طاغية، وكان هناك من يقذف الى مجلسه برسالة، تقول ببساطة انت لست الأفضل وعندما يأس البصاصون من العثور على محررهذه الرسائل، أعلن طغلاق أن هذا الشعب ليس جديرا به، ولابد من ترحيله، وارسل رجاله لجمع شعب يليق بشخصه الرفيع من تخوم دلهى، بعد إخلاء المدينة صعد طغلاق الى سطح قصره وقال إنه يستطيع أخيرا النوم ملء جفنيه،فقد تيقن من أنه لادخان يتصاعد من موقد، ولا كلاب تنبح . قرأت الواقعة فى كتاب الياس كانتى الحاصل على جائزة نوبل الجموع والسلطة ، وسعدت بأن المركز القومى للترجمة يشرف الان على ترجمته. وفى مصرنا الغالية، لم يتمكن فلاح باحدى قرى المنوفية من دفع ستين ريالا ضريبة للدولة، فصادر الناظر جاموسته وعرضها للبيع، رفض الفلاحون شراء الجاموسة تضامنا مع ابن بلدتهم، فاحضر الناظر جزارا وأمره بذبح الجاموسة وتقطيعها الى ستين قطعة وبيع القطعة بريال ليجمع حق الدولة، ومنح رأس الذبيحة للجزار مقابل عمله، اشتكى الفلاح وأقام الدنيا حتى وصل الى محمد الدفتردار، الذى أعلم بدوره محمد على باشا بما وقع ، فأمر على الفور بأن يقوم نفس الجزار بذبح الناظر وتقطيع جسده ستين قطعة، وأن يحتفظ لنفسه بالرأس كما فعل بالجاموسة، وأن تباع الستين قطعة من جثة الناظر الى شهود الواقعة وبنفس الثمن، ريال لكل قطعه، هذه الواقعة سجلها المؤرخ الكبير رءوف عباس فى كتاب الجمعية التاريخية التذكارى عن محمد على ، والذى شرفت بالمشاركة فيه. لدى انا أيضا قصة تخصنى، وقعت سنة 66 وكنت وقتها مراهقا ، فقد قبض على أخى محمد السيوى، واودع السجن الحربي، بعد تخرجه مباشرة من كلية الأقتصاد والعلوم السياسية، كان اخى وسيما ولامعا، كان بالفعل واحدا من أكثر من عرفت فى حياتى طيبة وإخلاصا وحبا لبلده ولعبد الناصر، صدق أخى الأقوال التى كان المسئولون يتشدقون بها آنذاك عن بستان الإشتراكية وارفع رأسك يا اخى فقد مضى عهد الظلم وكل هذا الكلام، كان اخى محمد موجها فى منظمة الشباب وهى منظمة بنتها الدولة الناصرية ورعتها بنفسها، وقبض عليه لأنه ناصرى فى عهد عبدالناصر، ولم يخرجه من المعتقل إلا هزيمتنا الكارثية فى 67، أخى محمد لم يرفع قضية ولم يطالب بتعويض مقابل ماحل به من سجن وتعذيب، ولم يشارك فى حملات الهجوم على عبدالناصر أيام السادات والتى شارك فيها، من كانوا يغنون قبلها للناصرية. لا وصف للعذاب الذى لاقته الأسرة وخاصة أمى وأبى، فقد اخذوه من بيننا، ولم نعرف شيئا عنه لشهور طويلة، أصاب الذهول أبى وسكنته هواجس لم تفارقه حتى مات، الناصرية لم تكتف بما فعلته بنا، فقد تناسخ نموذجها القمعى فى عالمنا العربى: صدام، والأسد، والقذافى الذى كان عبد الناصر يرى فيه شبابه. ما حدث «احنا بتوع الاتوبي» وغيرها من نوادرنا مع القمع ، ليس مضحكا أنها جروح عميقة فى ذاكرتنا، وكما يقول كانيتى أيضا، أن ما ينساه الإنسان سيعود حتما ليصرخ فى أحلامه طالبا العون، وإذا كان اديبنا الكبير نجيب محفوظ يرى أن آفة حارتنا هى النسيان، فإننى أعتقد أن لدينا ذاكرة دقيقة ولماحة، نعرف ما حدث ومن المسئول عنه، ولكن قدرتنا على المحاسبة لم تكتمل حتى الآن، مازلنا مجبرين على الامتثال، آفة حارتنا الكبرى يا أديبنا الرائع هى الاستبداد، وهو الراعى الرسمى لكافة العلل الأخرى. طغلاق كان مصلحا كبيرا رفيع القامة ومحمد على بنى قواعد مصر الحديثة، وعبدالناصر كان زعيما وطنيا مخلصا بلا جدال، ولكن ما يتركه الاستبداد فى الناس من شعور بالمهانة والخوف لا يخلق مواطنين، مهما صدحت الأغانى والاناشيد، نعم ، فالبشر هم حجر الزاوية. فى أحضان الاستبداد، انحدرت مدننا، وتربت جماعات العنف ، وتحت عباءته انتعش الفساد، ومن القطاع العام بدأ رحلته للسيطرة على قلب الدولة، لتصبح أجهزتها آليات لتدوير المصالح المتحلقة حوله فنشأت بذلك كتلة مؤثرة، قادرة على صياغة القرارات وتطويعها وفقا لمصالحها، أصبح فسادها محصنا وقانونيا وليس فعلا مجرما، الاستبداد سمح للفساد بتسييد ثقافته، حتى أصبح قوة مجتمعية مهيمنة يصعب اختراقها، قوة تعطل اى محاولة للمحاسبة والتقييم أوتطالب بالشفافية. والآن تتلاحق الإعلانات عن مشاريع اقتصادية واستثمارات عملاقة ومساكن وفرص عمل وبطاقات تموين سخية، وكلها انجازات بالغة الأهمية وتدعو للتفاؤل، ولكن لما لا نشعر بهذا الحماس عندما نتحدث عن خطوات تفكيك آليات القمع، أو مواجهة فساد الإدارة، وهل من العقل أن تتحقق التنمية تحت نفس العباءة القديمة؟ التعافى من الفساد سيبدأ عندما نبنى قدرتنا كشعب على المحاسبة، وهذا يتطلب فك آليات التواطؤ، ليطبق القانون جديا، ولنرسخ الحق فى الإطلاع على البيانات والتقارير والأرقام التى تخصنا وتمس حياتنا، بعبارة أخرى أعتقد أننا سنتغير عندما ننتهى من موضوع الانشاء، ونبدأ حصة الحساب. لمزيد من مقالات عادل السيوى