يتعرض الشرق الأؤسط لمرحلة غير مسبوقة من عدم الاستقرار، ولمخاطر سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية لا يتعرض لها أى إقليم أو منطقة فى العالم، فمع تحولات سياسية غيرت شكل الحكم على مدى السنوات الخمس الماضية فى العديد من دول المنطقة، تواصلت صراعات مسلحة تعصف بعدد آخر من بلدان المنطقة، فيستمر الصراع فى سوريا دون أفق، ويحاول العراق الخروج من كبوته، وتتواصل المواجهة فى ليبيا، ويضرب الإرهاب فى أكثر من بلد، وتلوح حاليا فى الأفق مخاطر شر جديد مستطير لمواجهة سنية شيعية بين السعودية وإيران قد تجر المنطقة لأتون حرب عقائدية مدمرة، بينما تستمر إسرائيل فى احتلالها دون أى ضغط إقليمى أو دولى مع استمرار حالة الانقسام الفلسطينى لتضر بالقضية وبشعبها. الخطير فيما يتقدم أن معظم تلك الصراعات تغذيها وتدعم بعض أطرافها، وتمدها بالمال والسلاح، دول من داخل المنطقة، تسعى لفرض نفوذها وهيمنتها على واقع عربى غير مستقر، ووسط محيط سياسى وجغرافى تخاله فارغا فتسعى للهيمنة وفرض سطوتها، وسواء كانت إيران أو تركيا المعنيتان بهذا الأمر، فإن المؤكد أن هناك مساعى غربية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بحيث تسوده الصراعات، وينقسم فيه المقسم، ويتم إعلاء شأن الجماعات والمنظمات الإرهابية على نظام الدولة المركزية فى المنطقة، مما يزيد نفوذها، ويسهل عملية الاستيلاء على مواردها، وحماية مصالحها البترولية، وبالطبع أمن إسرائيل التى تبقى الرابح الأكبر. فى ظل ما يحدث بالمنطقة، وما تتعرض له من مخاطر لاتزال كل المبادرات المطروحة على الساحة تديرها أطراف دولية شرقا أو غربا، ولها جميعا مصالح ستحافظ عليها حتى لو أدت للإضرار بشعوب المنطقة، بل وتقسيم دولها، وعليه فإن هناك واجبا وضرورة تحتم على دول المنطقة، وعلى رأسها مصر، السعى لتبنى مبادرة تسهم فى استعادة حركتها فى محيطيها العربى والإقليمي، فتعيد صياغة المعادلات القائمة بما يقود لحماية مصالحها ودول المنطقة، ويقلل من الآثار السلبية للواقع الراهن، وللتدخلات الخارجية التى أضرت حتى تاريخه بدول المنطقة، ولم تؤد لحسم أى من الصراعات السابقة، بل أبقت عليها لتستنزف مواردنا، وتحطم اقتصادياتنا، وتقود لموجة غير مسبوقة من الإرهاب الدخيل، وما شهدناه من موجات الهجرة، وتدفقات اللاجئين. المطروح تحديدا هو تبنى مصر لمبادرة الأمن والتعاون الإقليمي، تستهدف بناء منظومة قريبة من منظومة الأمن والتعاون الأوروبي، فالثابت أن منطقة الشرق الأوسط بحكم تواصلها الجغرافي، وما يجمع شعوبها من تاريخ وثقافة مشتركة، هى الأكثر قربا وتأهيلا بعد الاتحاد الأوروبى لتكوين نظام إقليمى يحافظ على مصالح أطرافه، ويراعى شواغلها الأمنية، ويعزز من قدرات المنطقة اقتصاديا، ويعزز التفاهمات السياسية. المستهدف هو بناء جسور من الثقة، وإيجاد المناخ الإيجابى المنشود لإطلاق طاقات دول وشعوب المنطقة فى عالم التكتلات، فى أطر اقتصادية إقليمية، وفى ظل ترتيبات أمنية واستراتيجية متفق عليها للحفاظ على المنطقة ودولها وحدودها، ودحر الإرهاب، ومواجهة المخاطر. ويتم لذلك السعى من أجل إنشاء إطار مؤسسى يدير تلك المنظومة، بالتعاون الوثيق مع المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية القائمة، وعلى رأسها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، والدول ذات التأثير مصر والسعودية وتركياوإيران والجزائر والمغرب وتونس والعراق. تعد مصر.. وبحكم مكانتها ودورها التاريخى كحاضنة للمصالح العربية، وحامية لثقافتها، ووسطية منهجها العقائدي، صاحبة المصلحة الأكبر فى قيادة مثل هذا التحرك، لاسيما وقد استكملت ببرلمانها الجديد بنود خريطة طريقها نحو الاستقرار والديمقراطية، فمصر هى الدولة الأهم، وركيزة الاستقرار، والأقرب إلى حد كبير للتحدث لكل الأطراف دون حساسية أو رواسب تحول دون القبول بهذا الدور، فهى مقر كذلك للجامعة العربية، والرئيس الحالى لمنظمة المؤتمر الإسلامى حتى كتابة هذه السطور قبل تسليم الرئاسة لتركيا. المبادرة المقترحة مصرية وعربية، وتستهدف إيجاد حالة من الثقة بين الأطراف العربية والإقليمية، خاصة إيرانوتركيا، وتستهدف فى مرحلتها الأولى استعادة الهدوء لمسار العلاقات التى تتهددها المخاطر والصراعات، التى لن يخرج منها أحد رابحا، فمحاولات فرض النفوذ، والتغلغل والتدخل فى الشأن الداخلى للدول العربية، لن يقود إلا لمزيد من المواجهة والانقسام، ويضر المصالح المشتركة، والقضايا السياسية والاقتصادية ذات الأولوية. آلية التعاون الإقليمى المنشود لن تضم إسرائيل، أكرر لن تضم إسرائيل، حتى تتخلى عن احتلالها للأراضى الفلسطينية، وتعترف بالشرعية الدولية، وتقبل بحل الدولتين، كما تقبل الدخول فى مفاوضات إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل بالشرق الأوسط، التى ستكون أساسا لمنظومة الأمن بالمنطقة وأحد أهدافه الرئيسية، وبحسب المبادرة المصرية المطروحة فى هذا الشأن، وقد يكون فيما يمكن لآلية التعاون الإقليمى أن تطرحه وتحققه من مكاسب اقتصادية، وهدوء وأمن واستقرار إقليميا ما يحفز إسرائيل على الخروج من خندقها وأزمتها وعزلتها الإقليمية، شريطة إنهاء الصراع لمصلحة الجميع دولا وشعوبا، وفقا للمبادئ الدولية. الآلية المنشودة ستتعامل مع قضايا وملفات المنطقة وأزمة العلاقات بين دوله، بهدف إنشاء محيط إقليمى أو شرق أوسطى آمن تنعم فيه كل دوله بالأمن والاستقرار، وتتزايد فيه الروابط السياسية والاقتصادية والتنموية والثقافية بين دوله وشعوبه. تنقسم تلك الآلية إلى لجنة عامة تتفق على صياغة ورقة متفاهمة تكون بمثابة مرجعية العمل التى تحدد النطاق والأهداف واللجان، بحيث تكون دستورا أو ميثاقا لعمل المنظمة، ثم تنشأ فى مرحلة تالية أربع لجان فرعية هي: لجنة سياسية، واقتصادية تنموية، وأمنية واستراتيجية، وثقافية واجتماعية، تعمل بالتوازى لتطوير العلاقات بين الأطراف فى تلك المجالات، وترفع نتائجها دوريا للجنة العامة، ولكل لجنة مجال اختصاصها. فاللجنة السياسية مثلا تستهدف تنقية مناخ العلاقات، والرد على المخاوف والادعاءات المتبادلة، والاتفاق على طريق بناء الثقة والمصالحة، وذلك فى المرحلة الأولى لعملها، بينما يمتد نشاطها بعد ذلك للقضايا السياسية، والصراعات الناشبة بالمنطقة. وتعنى اللجنة الأمنية والاستراتيجية بملف الإرهاب ونشاطه العابر للحدود، وعمليات التهريب والاتجار بالبشر، وملف منع الانتشار، وعدم الاعتداء، وتبادل المعلومات، وملف الحدود، وملف المياه. أما اللجنة الاقتصادية فتعنى بمشروعات التعاون الإقليمى فى المنطقة، من مد أنابيب النفط والغاز والعابر للحدود، والربط الكهربائي، والطاقة المتجددة، والتبادل التجاري، والتسهيلات الجمركية، والتعاون الاقتصادى والمالى والبنكي، والاستثمار وقوانينه، والنقل والطرق والطيران. اللجنة الثقافية والاجتماعية وتعنى بقوانين العمل، وانتقال العمالة وحمايتها والهجرة والاتجار بالبشر، والتعليم والمناهج التربوية، والرسالة الدينية، والتدريب المهني، والشباب. أخيرا.. وفيما يتعلق بأسلوب التحرك المقترح لطرح المبادرة، تقوم مصر، وفى إطار سياسى أو بحثى مناسب، بمناقشة الورقة المفاهمية المطروحة من خلال هذا المقال، وبلورة مضمون المبادرة وعناصرها، وأسلوب التحرك بشأنها، نبدأ بعد ذلك استشراف رأى الأطراف الإقليمية بشكل ثنائى لتأمين الدعم والمشاركة، وأخذ ملاحظاتهم تمهيدا لصياغتها بالشكل النهائى لطرحه على اللجنة العامة، والتشاور مع الأطراف الأوروبية والأممالمتحدة للترويج والتنسيق للمقترح، ولخدمة أهداف المبادرة، وإقناع الأطراف الدولية بجدواها. ويعهد بمهمة التشاور فى العواصم لشخصية مصرية مرموقة، وذات ثقل وطنى وعربى ودولي، كالسيد عمرو موسي، الذى يشكل مجموعة عمل تتداول الطرح المصرى وتنقحه ثم تتابع تنفيذ بنودها بعد التشاور مع الدول الإقليمية والدولية.، والمنظمات ذات الصلة، وقد يدعو ممثلا لكل دولة (شهريا)، أو للاجتماع دوريا، لصياغة المبادرة بما يحمل رضا وتوافق الجميع، وتكون نواة لسكرتارية تنسيقية، ويمكن فى هذه المرحلة الاستعانة بخبرة الأممالمتحدة أو منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. من المهم البدء بمجموعة الدول التى ستتوافق على المبادرة بصفة مبدئية، واستكمال انضمام باقى الدول تباعا، وحسبما زادت الفاعلية والمصداقية انضم لها الكل. الخلاصة.. أن المبادرة المقترحة هى تحرك مصرى يتلمس مخاطر المرحلة، وما تتعرض له دول وشعوب المنطقة من صراعات وحروب كانت لها كلغة إنسانية وسياسية واقتصادية باهظة، كما تتحسب لمخاطر أخرى قادمة، وصراعات أيديولوجية مرشح لها أن تعصف بما تبقى من دولنا، ومن مكاسب اقتصادية وتنموية تحققت عبر العقود السابقة. المبادرة تستهدف دعم سياسات حسن الجوار، ومنع الانتشار، والقضاء على الإرهاب، ووأد الخلافات فى مهدها، وبناء الثقة، وهى رؤية مستقبلية جادة لا تعارض بينها مع أى جهود أو مسارات سياسية حالية، فهى إطار لتعزيز التفاهم الإقليمى مع أطراف تحيط بمنطقتنا من الأسلم ضمها لصفنا بدلا من الصدام والتصارع معها، كما ستضع المبادرة المجتمع الدولى أمام مسئولياته السياسية والاقتصادية، لإنجاح الشرق الأوسط ليتحول لمنطقة مصالح ونماء، بدلا من الصراع والشقاق، ولمصر مصلحة أكيدة فى تحقيق ذلك، والمبادرة به. لمزيد من مقالات محمد حجازى