كان ميللر قد توج عالميا كأهم مفكر في عالم الكتابة للمسرح, في استفتاء أجرته صحيفة صنداي تايمز البريطانية, بين كبار كتاب المسرح في أوروبا وأمريكا, واتفقوا علي اختياره دون منافس. في الوقت نفسه كان قد لمع بقوة, اسم كاتب مسرحي آخر هو سام شبرد, كأحد أهم كتاب المسرح في أمريكا. وتوقفت باهتمام أمام عملين لهذين الكاتبين, تميزا باستشراف مستقبل أمريكا في الداخل والخارج, في تزاوج ابداعي بين الأدب والسياسة. وكلاهما توقع تراجع نفوذ أمريكا ومكانتها في العالم بعد عشر سنوات. وأرجعنا أحد أهم الأسباب, إلي تناقضات سياساتها التي بدأت صورها تتوالي من بعد نهاية الحرب الباردة عام.1989 وكنت معتادا في عطلتي الأسبوعية, علي مشاهدة مسرحية, من العروض التي تشكل ملمحا للحياة اليومية في الولاياتالمتحدة, ليس فقط في برودواي, وأيضا في, واشنطن, للفرق المقيمة والزائرة. وكيف كان الابداع المسرحي كاشفا ومنبها لأشياء ترتكبها السياسة, وتقود أمريكا إلي مأزق تاريخي قادم. قبل زيارتي لميللر, تلقيت مكالمة تليفونية من الدكتور فوزي فهمي رئيس أكاديمية الفنون, والمشرف علي المهرجان الدولي السنوي للمسرح التجريبي, يثني فيها علي مقالي عن مسرحية علاقات مستر بيتر, ويبلغني رسالة من وزير الثقافة فاروق حسني يطلب فيها أن أنقل إلي أرثر ميللر دعوة لتكريمه في المهرجان التجريبي القادم في القاهرة, وأن يكون ضيفا علي وزارة الثقافة. أمريكا.. مجسدة علي خشبة المسرح قبل أن أذهب إلي موعده مع ميللر, كنت قد شاهدت مسرحيته التجريبية وجلست أشاهد العرض الذي يلعب بطولته بيتر فولك الذي عرفناه في مصر, بطلا لحلقات مسلسل كولومبو الشهيرة., وهو أصلا ممثل مسرحي. المسرحية من نوع دراما الحالة النفسية. وتدور أحداثها داخل مساحة عقل بطلها, وهو في حالة وسط بين النوم واليقظة, تمثل بالنسبة له عالمه وزمنه, وبتكنيك درامي يختلف عما كتبه ميللر من قبل. يتقابل أبطال العمل وسط ديكور متكسر, وشبه متهدم, تتناثر فيه قطع الطوب علي جوانب الجدران, وقد رصت فوقها موائد, وكراسي مكسرة, تشعرك من اللحظة الأولي, بانقطاع الاتصال بين المكان والناس الجالسين فيه. وبعد وصول مستر بيتر, وتحديد ملامح شخصيته, تتوافد بقية الشخصيات, وتشعر من خلال أفكاره, وحواراته معهم, أنه لم يعد ينتمي إلي الحاضر, أو اللحظة التي يعيشها, وأن مشاعره تنتمي إلي ماضي لم يعد له وجود. وتتوالي صور انقطاع الصلة والعلاقة بين الناس وبعضهم, وبين الناس والأشياء والأماكن المحيطة بهم. ميللر يضع المتفرج أمام أمريكا ذاتها, كبلد ووطن. وتبدو أمريكا التي كانت في نظره حاضرا أبديا, قد اختفت أو أنها علي وشك الاختفاء. وهي التي كانت بالنسبة لمستر بيتر مركز العالم, والحلم, والهدف المحدد والمعروف, والعلاقات المتينة التي شيدت علي منطق, وعلي أسباب.. وكل ذلك لم يعد موجودا مثلما كان في الماضي. فلا هدف ولا حلم, ولا فكرة محددة ظاهرة في الأفق. ولذلك تقطعت الصلات, وتقطعت معها الذكريات أيضا. كانت رؤية ميللر في مسرحيته التجريبية التي عرضت عام1998, تطرح تصوره من خلال عمل أدبي للمستقبل, وهو ما حدث بعدها بعشر سنوات. مستر ميللر.. ندعوك لزيارة مصر بعد نشر ما كتبته في الأهرام, جاءني في اتصال د. فوزي فهمي, ورسالة الدعوة لميللر لزيارة مصر, وتكريمه, في يوم افتتاح المهرجان الدولي للمسرح التجريبي. وأجريت اتصالا مع ميللر لمقابلته, فحدد لي موعدا في بيته في نيويورك, وعرفت منه مبدئيا أنه يرحب بالدعوة من حيث المبدأ, وإن لم يستقر علي ما إذا كانت ظروفه ستسمح له بالسفر إلي القاهرة واحطت د. فهمي علما بهذا الاحتمال, فاتصل بي بعدها, وقال إن وزير الثقافة, يتطلع إلي كلمة مسجلة يوجهها ميللر في افتتاح المهرجان, في حالة عدم امكانه الحضور. وتحسبا لهذا الاحتمال, اتصلت بصديق مصري يعمل أستاذا بجامعة نيويورك, لديه كاميرا فيديو, وسألته عن إمكان ذهابه معي لتصوير كلمة ميللر, لو وافق علي ذلك, وحواري معه للأهرام. وتهلل الصديق محمد سعيد, فرحا وقال لي علي سبيل الدعابة سأحضر معك ليس فقط لتصويره, لكن لأصافح يد الرجل التي لمست مارلين مونرو, وكان ميللر زوجا سابقا لها] وذهبنا إلي بيته, وسلمته الدعوة. ورد بأنه سعيد بها, وكان يتمني السفر إلي مصر, لكنه في ظروف تقدمه في العمر, يتعب من السفر الطويل بالطائرة, فأجربت معه الحوار للأهرام, ثم سجلنا له كلمة وجهها إلي المهرجان, واختتمها بقوله: زرت مصر مرتين مع زوجتي وابنتي واستمتعنا بها كثيرا. وأتمني أن أعود إلي مصر قريبا, لاستمتع بمشاهدة معالم تاريخها العظيم. وأرسلت إلي د. فهمي الفيديو المصور لكلمة ميللر, التي عرضت علي شاشة سينما يوم افتتاح المهرجان, مصحوبة بترجمة لها بالعربية, بصوت الفنان محمود ياسين. إن ميللر بالنسبة لنا, ليس مجرد واحد من أعظم كتاب المسرح المعاصر, لكنه رجل صاحب مواقف مساندة للحق, والانسانية, والعدالة. وأذكر أنه كان قد رفض دعوة من إسرائيل, قال في رده عليها: إن قمع الفلسطينيين, والاستيطان, خيانة حتي لقيم التوراة. ودعا لقيام دولة فلسطينية, ووصف إسرائيل بأنها مجتمع مسلح ويائس, وعلي خلاف مع جيرانه, ومع العالم. سام شبرد.. ونظرة متشائمة لأمريكا الآن ونحن في عام2016, وبعد مرور أحد عشر عاما علي وفاة أرثر ميللر عن عمر89 عاما, فقد احتل سام شبرد, مكانه, كأهم كاتب مسرحي في أمريكا الآن. وكنت أتابع بعض مسرحياته التي وصل عددها إلي45 مسرحية, سواء بمشاهدة عروضها, أو بقراءتها, وقمت بترجمة بعضها للمركز القومي للترجمة في مصر, ضمن سلسلة روائع الدراما العالمية, التي يشرف عليها الدكتور أحمد سخسوخ. وشبرد يميل في أعماله إلي تصوير أحداثها في جو من الرمزية, أقرب إلي السيريالية, وأحيانا ينحو إلي جو الأسطورة, والتي ترمز إلي أمريكا الدولة التاريخ الكاوبوي المكان المستقبل والمصير. وفي أعماله عامة, تدور صراعات فلسفية, بين الشخصيات, تعبر عما جري من تغييرات ثقافية واسعة المدي, بدأ المجتمع الأمريكي مؤخرا, يعاني منها, في صورة انقسامات داخلية, وبروز هويات وخصائص لنوعيات مختلفة من الثقافات, التي لم تكن لها هذه النزعة من قبل, حين كانت أمريكا توصف ببوتقة الانصهار. وهو يلقي تبعة هذه الظواهر, علي تغلغل جماعات المصالح وقوي الضغوط, في دائرة التأثير علي صناعة القرارات السياسية, وشكوي المواطن العادي من ذلك, وشكوكه في الثقة الموروثة في الدولة, كقوة تحافظ علي قيم الأمة, كما يلقي تبعتها أيضا علي ما وصفه بالمؤامرات, والاغتيالات, والحروب التي تخللتها أعمال وحشية, في الخارج حتي إن كتابات شبرد تحولت إلي ميدان, نشهد فيه جوانب عديدة من التحولات الثقافية والفلسفية التي تمر بها أمريكا. وفي أعماله, تنتقل الأحداث من البعد الشخصي لأبطاله, إلي البعد السياسي, بإشارات, إلي تهافت الحلم الأمريكي, وإيماءات تلقي باللوم علي سياسة أمريكا الخارجية, وضمنها حرب العراق. ومن يشهد مسرحياته علي اختلافها, يشعر بأنها تأخذ به, من الحيز المحدود للأحداث علي خشبة المسرح, إلي اطار أوسع, يتمدد في الفضاء الافتراضي للدولة الأمريكية. فمثلا في مسرحيته رفس حصان ميت التي توقفت أمامها كثيرا والتي ترجمتها للمركز القومي للترجمة تدور الأحداث في جو من الرمزية, وبتركيز علي أمريكا ذاتها, وتعكس الأزمة الروحية التي يعاني منها بطلها هوبرت ستروزر, من خلال ما يحيط به من أزمة سياسية معاصرة, متعددة الأبعاد, ضاع فيها منه الإحساس بالتاريخ, وباليقين تجاه كل ما هو قائم حاضرا, وما هو قادم مستقبلا, ويتلبسه أحساس بخيبة أمل, من فقدان أمريكا القيم والمثل. وشحن شبرد مسرحيته بلهجة انتقاد حادة لسياسة أمريكا في الداخل والخارج, وشعورا بالذنب مما فعله الأمريكيون ببلادهم وبدول أخري ذات سيادة. كانت الصورة التي تجمع بين الماضي, والحلم, والفضاء الدرامي, وأخطاء السياسة الخارجية, تجسد قطيعة بين بطل المسرحية, وبين أشياء نشأ هو في ظلها, وكان يعتبرها قيما, لو حدث أنها ضاعت, أو تهافتت, لانتفي معني وجوده, وذلك في معالجة درامية, وحوارية, تقترب كثيرا مما قدمه أرثر ميللر في مسرحيته علاقات مستر بيتر, عن تقطع علاقاته بالحاضر, وفقدانه اليقين في المستقبل. تقطع العلاقات من منظور رؤية ميللر وشبرد يعتبر مسرح سام شبرد الذي عرضت أولي أعماله عام1964, مسرحا صادما, فهو كمن يرمي حجرا ثقيلا, في بحيرة الفكر السياسي الموروث, والمتأصل, لتتحرك مياهها, ولا يبقي سطحها راكدا, ساكنا, لا يتحرك, ولا يتطور, ليستوعب تطورات عامية تجري من حوله, وتطال شاطئه. ولعل هذه هي التيمة الأساسية في مسرحيته عملية الأفعي, التي يهفو بطلها إلي مجتمع يحافظ علي نكائه الأصلي. وإن من يتأمل مسرحياته الأخري, مثل مدينة الملائكة, أو لعنة الطبقة الجائعة, أو السياح, أو الغرب الحقيقي, أو سلاح الجريمة, وغيرها, يشعر أن شبرد يدق ناقوس إنذار متصل, حتي يدرك المجتمع الأمريكي ما بدأ يدب في أوصاله من انقسامات, وتحوله إلي جماعات مصالح متنافسة, لكل منها نظرتها وثقافتها, ما بدأ يتكشف عن المؤامرات, والاغتيالات, ووحشية الحروب, جراء السياسة الخارجية. هذه الرؤية الأدبية المبكرة, لكل من ميلر, وشبرد, تعد بمثابة مصباح يلقي ضوءه علي سياسة أمريكا التي نراها الآن في أوضح صورها, من إدارة أوباما, كشبكة من التناقضات, تخلق مشاعر احباط ليس فقط لمواطنيه, بل أيضا لحلفاء وأصدقاء أمريكا التقليديين, الذين كانت بالنسبة لهم, رمز المصداقية, والثقة, والأمان. ويبدو من يدير سياستها الآن, مشدود إلي جانبين متنافرين, يجره كل منهما ناحيته, أحدهما ممتد إلي جذور ثقافة راسخة مازال تؤمن بالقوة العظمي الوحيدة, وأن قدرها أن تكون لها الهيمنة علي الآخرين, والثاني اقتنع بأن العالم من حول أمريكا قد تغير بالفعل, وتصعد فيه دول كانت صغيرة, فأصبحت مؤثرة, وقادرة علي أن تجذب من يد أمريكا, زمام تسيير شئونها, بل والتأثير علي الأحداث في مناطقها الاقليمية وفي العالم. وهذه الرؤية الأدبية الابداعية, لم يغب عنها تشبث صناع السياسة الخارجية, بوسائل وأساليب تنتمي للماضي, ولا يوجد تجاوب, واتساق بينها وبين ظروف الحاضر, فيما تمارسه من وضع فكرة المؤامرة موضع التطبيق, باشعال الحروب, والاغتيالات, والانقسامات والفوضي.