لكل مبني في الإسكندرية حكاية وتاريخ.. فالمباني في مدينتي ليست جدرانا صماء بل حكايات وصفحات من عمر المدينة, وكل طوبة في أي جدار تحكي قصة بعضها سعيد وبعضها الآخر حزين,, بعضها يحكي قصص كفاح ونجاح وعرق وبعضها يحمل ذكريات مؤلمة ولكنها في النهاية كلها تنسج ثوب المدينة الرقيق, ثوب من الدانتيلا الأنيقة الرقيقة الشفافة التي تناسب المدينة المتحضرة متعددة الثقافات التي تسكن علي ضفاف البحر المتوسط.. وحكاية هذا الأسبوع عن المدرسة الفرنسية الأشهر في الإسكندرية المعروفة باسم كلية سان مارك وهي المدرسة التي افتتحها الملك فؤاد في6 أكتوبر1928 كما تقول المجلة الفرنسيةLILLUSTRATION في تحقيق لها نشر بتاريخ10 نوفمبر1928 بعنوانالثقافة الفرنسية في الخارج تعليقا علي صورة ضخمة بحجم المجلة للملك فؤاد الأول لحظة خروجه علي سلالم المدرسة الرخامية بعد افتتاحه لها محاطا بالرهبان وأحمد حسنين باشا وبعض الوزراء ويقول التحقيق الذي أفردت له المجلة عدة صفحات: إنه في يوم6 أكتوبر قام ملك مصر فؤاد الأول يرافقه عدد من الوزراء والعسكريين بزيارة الي الإسكندرية لإفتتاح كلية سان مارك الجديدة التابعة لرهبان المدارس المسيحية الكاثوليكية, وبهذا قدم ملك مصر دليلا قاطعا علي إهتمامه بكل ما يدعم التطور الفكري والثقافي للشباب المصري وذلك في إطار إهتمام فرنسا بنشر الثقافة الفرنسية في مصر والعالم.. وتقول المجلة إن بداية المدارس المسيحية التي أنشأها الرهبان في مصر كانت عام1847 حينما أقاموا أول مدرسة لهم في الإسكندرية, وقد وصلت عدد منشأتهم في مصر حتي الآن الي32 مدرسة يتلقي فيها10 آلاف طالب تعليما فرنسيا راقيا يتماشي مع احتياجات البلاد وعلي كل الدرجات وصولا الي كليات الحقوق والأشغال العامة أو الهندسة في باريس نفسها( أي أنه كان بإمكان الطلبة في المدارس الفرنسية في مصر إستكمال تعليمهم في الكليات الفرنسية),, وكان نصيب الإسكندرية وحدها من هذه المدارس12 بيتا أو مدرسة تقدم الخدمات التعليمية لأربعة آلاف طالب, ومع تزايد الإقبال علي هذه المدارس الفرنسية استدعت الحاجة الي إنشاء مدرسة علي أحدث الطرق الحديثة لإستيعاب المزيد من الطلاب فكانت مدرسة سان مارك التي يتم افتتاحها هذه الأيام.. وتضيف المجلة في تحقيقها أن تصميمات المشروع تم وضعها بواسطة عدد من المهندسين هم أم. أم آزيما, وجي. بارك, وهاردي وهم أعضاء المكتب الهندسي الذي فاز بتصميم وإنشاء المحكمة المختلطة في القاهرة وقد استغرق البناء3 سنوات, وتم وضع حجر الأساس في16 مايو1926 وانتهي العمل في1 أكتوبر1928, وقد قام المعماريون بتصميم الواجهات بشكل يوحي بالقدم ويحاكي المباني الأثرية بإستخدام الحجارة الأنيقة بشكل متناغم, ولتحاشي كثرة اغستخدام الأعمدة في صالة الإجتماعات الموجودة في الدور الأول من الجناح الرئيسي تم إستخدام أنواع من الخرسانة المسلحة لتحتمل وزنا لا يقل عن720 طنا وكل ذلك تم تحت إشراف المهندس هبرت أحد خريجي مدرسة البوليتكنيك في باريس. آما الكنيسة الموجودة بالمدرسة فهي مصممة علي الطراز الروماني ومستوحاة من كنيسة فيزيلاي علي شكل مستطيل طويل وبسقف نصف دائري, وتحتضن تمثالين للسيدة العذراء والقديس يوسف, ويحيط بكل نافذة من الجانبين مشاهد من حياة السيد المسيح محفورة علي الحائط أما النوافذ فهي من الزجاج الملون وتحمل صورا دينية أهمها صورة للسيد المسيح ومجموعة من القديسين( القديس متي- القديس مرقس- القديس لوقا- القديس يوحنا). وتختتم المجلة حديثها عن المدرسة بقولها إن هذه المدرسة هي قصة نجاح فرنسية من البداية وحتي النهاية.. فالفكرة فرنسية والتنفيذ الهندسي فرنسي والمعماريون فرنسيون والإشراف فرنسي وإدارة المدرسة بالطبع فرنسية وبهذا تكون فرنسا قد نجحت في فكرة نشر ثقافتها ولغتها في الإسكندرية ومصر وبلاد الشرق.. فالتعليم والثقافة خير وسيلة للتواصل ونقل الأفكار والاتحاد ونقل اللغة والروح الفرنسية وليس أدل علي ذلك من أن فكري باشا الوزير المصري وسفير جلالة الملك فؤاد في فرنسا هو أحد خريجي المدارس الكاثوليكية والجيزويت في مصر. ومن هذه الوثيقة المطبوعة في مجلة نتبين أن مصر وإن كانت تقع في تلك الوقت تحت الاحتلال البريطاني إلا أن فرنسا قد نجحت في سحب البساط من تحت أقدام إنجلترا واحتلت مصر ثقافيا وفكريا.. فالاحتلال لم يكن بالأسلحة بل بالثقافة, ففي الوقت الذي كان المصريون يحاربون فيه إنجلترا ويدعون للاستقلال ويحاربون كل ما هو إنجليزي كانوا يرتمون في أحضان الثقافة الفرنسية.. فكانت اللغة الفرنسية هي لغة علية القوم وأكابر الناس وسعي الباشوات والأغنياء لتعليم أولادهم في المدارس الفرنسية وانطلق مصطفي كامل ومحمد فريد لطلب الحرية من قلب فرنسا.. وهكذا ترك الفرنسيون الإنجليز يتلقون الضربات من المصريين الأحرار بينما تغلغلوا هم في النسيج المصري بالثقافة واللغة الرقيقة والشياكة والأناقة الفرنسية ليثبتوا أن الإحتلال الثقافي أقوي وأطول أمدا وتأثيرا من الاحتلال العسكري. وعن تاريخ المدرسة تقول المصادر التاريخية إنه في عام1921 طلب مجموعة من الرهبان اللاساليين الكاثوليك العاملين في مدرسة في منطقة المنشية من السلطان فؤاد أن يقوموا ببناء مدرسة جديدة ذات مساحة أكبر لمواجهة تزايد أعدد التلاميذ المنتسبين الي المدرسة التي يديرونها, فوافق السلطان فؤاد علي طلبهم وتم اختيار الموقع في منطقة وسط المدينة وهي الشاطبي, واستغرق بناء المدرسة الضخمة بشكل معماري متميز نحو ثلاث سنوات, ووضع حجر الأساس في مايو1926 بحضور الأمير عمر طوسون ممثلا للسلطان فؤاد وحسين صبري باشا حاكم الإسكندرية وهنري جيلارد الوزير المفوض الفرنسي إلي القاهرة وفريدريك جوريو قنصل فرنسابالإسكندرية وإنجرام باشا قائد الشرطة في الإسكندرية وخلوصي بك نائب المحافظ وبعد انتهاء بناء المدرسة وافتتاحها صارت من أشهر المدارس بالثغر وخرجت الالاف من الطلبة الذين صار منهم الوزراء والمشاهير والنوابغ والعلماء وبقيت جدران المدرسة شاهدة علي قصص نجاحاتهم وتفوقهم وذكرياتهم.