فى مصر ظاهرة فنية كبيرة تحمل اسم آدم حنين. وهى ظاهرة عمرها عقود من الزمن. لكن الاهتمام بها والالتفات إليها بدأ متأخراً، أى بعد أن كان قد أصبح آدم فناناً كبيراً عالميّ الشهرة. فآدم حنين هو نحات ورسام مصرى يتجاوز فى إبداعه، وفى أدوات عمله الفني، وفى مواضيعه، وفى كل ما يتصل بالنحت وبالرسم من شؤون، يتجاوز حدود بلاده، ليصبح فى عداد كبار المبدعين العالميين فى هذا الجنس الفنى الجميل والصعب والمعقد. تعرفت إلى هذا الفنان الكبير منذ بضعة أعوام. قدمنى إليه صديقنا المشترك الصحافى والكاتب المصرى الراحل مصطفى الحسيني. زرته أكثر من مرة بصحبة صديقى الفنان جميل شفيق فى منزله ومحترفه فى قرية الحرانية المجاورة لمنطقة الهرم فى ضواحى القاهرة. تحدثت إليه كثيراً وطويلاً، رغم أنه كان قليل الكلام. لكن كلامه القليل البسيط هو أشبه ما يكون بملامح وجهه الصافية والهادئة التى توحى بالحب وبالسلام وبالثقافة وبالتواضع. إنه كلام بليغ وعميق وشديد الوضوح فى تعبيراته، ذلك الكلام الذى سمعته من آدم حنين، وهو يشرح لى بعض أفكاره، ويجيب عن أسئلة طرحتها عليه حول فنه وحول العديد من منحوتاته. يجيب فناننا الكبير عن الأسئلة التى تطرح عليه حول مصادر فنه، ومصادر تجربته الفنية، وعناصر أسلوبه، أو ما يمكن اعتباره المدرسة الخاصة بالفنان، يجيب بوضوح بأنه استقى من تاريخ مصر القديم، ومن مصريته هو، كل ما عبرت عنه منحوتاته ورسومه، فى موضوعاتها، وفى أشكالها، وفى الطرائق والأدوات التى استخدمها فى عمله الإبداعي. فالفن الفرعونى القديم هو الذى أذهله، وأوقعه أسير تجربته الفنية الخاصة به. وقد كانت زيارته المبكرة إلى الاقصر وهو فى سن الدراسة الثانوية تأكيداً وتثبيتاً لما أصبح فيما بعد يعرف بمدرسة آدم حنين فى النحت والرسم، وسمتها الرئيسية التى تتمثل فى انتماء صاحبها إلى مصريته، القديمة العريقة فى تاريخها وفى حضارتها المميزة. ولد آدم حنين فى عام 1929 فى حى "باب الشعرية" الشعبى فى القاهرة. وهو حى عريق. يصفه آدم حنين بأن فيه "غنى وطرق وعادات وتقاليد وحركة حيوية كبيرة". ويبدو من كلام آدم أن الجو فى الحى كان جو تسامح بين الأقباط والمسلمين واليهود. وقد أرسله والده القبطى إلى كتّاب كان يديره أحد الشيوخ المسلمين لكى يحفظ القرآن ويتعلم اللغة العربية. وكان هذا الأستاذ الشيخ يخرج بطلابه إلى غيطان وحدائق روض الفرج. وكانت ورشة أبيه تقع بالقرب من حارة اليهود. وكان لوالده أصدقاء من أهل الحى ممن ينتسبون إلى الأديان الثلاثة. وكانوا يزورونه فى منزله. كما كان له أصدقاء يونانيون ممن يمارسون الحرف. يروى آدم حنين، فى حديث أجراه معه محمد الحمامصى ونشرته جريدة "السفير" اللبنانية، بداية علاقته بفن النحت والرسم. وتظهر فى هذه الرواية البسيطة بساطة وعمق المشاعر الفنية الكامنة عند هذا الفنان الكبير. كان فى سن الثامنة من عمره يتابع دراسته الإبتدائية عندما وقع بين يديه كتاب عن الحضارة عند قدماء المصريين. يقول آدم بأنه أحب هذا الكتاب كثيراً لأنه كان يحكى للأطفال بشكل جميل عن التاريخ المصرى القديم. وكان يضم صوراً ورسوماً وتعليقات. وكانت طريقة الأستاذ فى تدريس مادة التاريخ تزيد آدم حباً لتاريخ بلده. ويقول آدم بأن أستاذ التاريخ هذا اصطحب تلامذته ذات يوم إلى المتحف المصري. ورغم أن هدف الزيارة كان استكمالاً لدرس التاريخ إلا أنها كانت بالنسبة إلى آدم تجمع بين هدف فنى وهدف تاريخي. فقد أدهشته التماثيل والصور والأشكال، وأحس أنه فى عالم غريب جداً وجميل جداً وأخاذ جداً. كان ذلك بالنسبة إليه بمثابة صدمة. وكانت تلك الصدمة المصدر الأول لتجربة فريدة فى حياته. فترك أستاذه وزملاءه وانطلق فى المتحف كالمجنون، ينتقل من جناح إلى آخر. فقد رأى فى المتحف عالماً جديداً، لا مثيل له فى البيت ولا مثيل له فى المدرسة ولا مثيل له فى الشارع وفى النادي. وقد قادته هذه الدهشة التى استولت عليه فى المتحف إلى التقرير بينه وبين نفسه بأن عليه أن يصنع منحوتة، أى أن يكون نحاتاً صانع تماثيل. فأخذ قطعة صلصال من المدرسة إلى البيت. وصنع منها تمثالاً لأخناتون، شبيهاً بالتمثال الذى رآه فى المتحف. وكان والده يملك محترفاً لتصنيع الفضيات. فعندما رأى والده التمثال فرح به ووضعه فى "فاترينة" معروضاته. وكانت تلك هى البداية الرائعة التى قادت آدم حنين إلى موقعه كفنان كبير تعتز به مصر وتفخر، بمثل ما اعتز به أبوه وافتخر عندما رأى ذلك التمثال الأول من صنع ابنه. ومع الوقت، كما يقول آدم حنين، أصبح له "مقياس" للفن ولفهمه وللدخول فى عالمه. وتوطدت علاقته بالفن الفرعونى من خلال زياراته المتكررة إلى المتحف المصرى مع زملائه فى المرحلة الثانوية من دراسته. وصار يرسم بالحجر وبوسائل أخرى نماذج فنية لشخصيات تاريخية وراهنة. وصار، كما يقول هو بالذات، من خلال هذه التجربة، مشروع فنان، ليتحول فى زمن قصير إلى فنان كان يكبر بسرعة. وكانت بداية تحوله الكبرى بعد انتهاء دراسته الثانوية بدخوله إلى كلية الفنون فى جامعة القاهرة، ليتخرج منها فى عام 1953 مكرساً حياته لفن النحت، الذى لم تشغله عنه قليلاً إلا هوايته فى الرسم الملون. وقد مارس هواية الرسم هذه مستخدماً فيها تقنيات تقليدية مصرية غير متأثرة بالمدارس الغربية فى الرسم. بعد تخرجه من كلية الفنون ذهب إلى مدينة الأقصر فى إطار بعثة داخلية لم يحدد آدم من كان ينظمها الجامعة أم وزارة المعارف. وقد أقام هناك فى قرية "الجره". وهى منطقة أثرية كبرى تمثل حقبة مهمة فى تاريخ مصر الفرعوني. وكانت هذه البعثة، كما يقول آدم، بمثابة دراسة مهمة صحح بها فى علاقته مع الوقائع التاريخية ما كان قد تعلمه فى كلية الفنون فى القاهرة. وفى مقارنته بين ما تعلمه أكاديمياً فى كلية الفنون وما رآه فى الآثار التى تحكى التاريخ من دون وسائط، يؤكد آدم بأن تجربته الجديدة علمته أن يكون له قياسه الخاص فى الفن. فهو إذ يعتبر الفن الفرعونى فناً عظيماً تأثر به وتعلم منه، فإنه فى أسلوبه فى النحت لا يعيد إنتاج فن فرعونى جديد. فإذا كان الفن الفرعونى نتيجة فلسفة وفكر وديانة فإن الفن بشكل عام لا يمكن أن يكون كله فلسفة وفكراً. "فالطبيعة المحيطة لها دور مؤثر فى فعل الفن: النور والجمال والمسطحات والصحارى والأشجار، كل هذا يعكس رؤية مختلفة على العمل الفنى ويؤثر به". بعد عودته من الأقصر سافر آدم إلى ألمانيا فى عام 1958. وبقى فيها عاماً ونصف العام. تعرّف فيها على جديد أوروبا فى الفنون. وكان هناك، كما يقول، زخم فكرى وفني. بعد عودته من ألمانيا لم يرق له أن يقيم فى القاهرة. فذهب إلى منطقة النوبة لاستكمال ما كان قد بدأ به تجربته الفنية فى الأقصر. ذلك أن بلاد النوبة كانت بالنسبة إليه تحتفظ بالأصول فى الأشكال والملابس والأدوات والبيوت. وكانت جميع هذه الأمور، كما يقول، دروساً تعلم منها. وكان يعتبر آدم على الدوام أن بحثه المتواصل عن الجذور والتعرف عليها هما وحدهما اللذان يساعدانه على تغذية وتوضيح وتحديد طريق تطوره ورسم معالم مدرسته الفنية الخاصة به. لكنه عاد فقرر أن يخرج من مصر. واختار الذهاب إلى باريس. وأقام فيها ما يقرب من ربع قرن. لكن باريس لم ترق له كثيراً رغم أنه اندهش بحضارتها وبتاريخها. غير أنه يقر بأنه لم يتعلم من مدارسها فى النحت. ولم يتأثر بها. وعاد إلى القاهرة بعد ذلك التاريخ الطويل من الغياب عنها، وتابع عمله فى محترفه. لكنه أسهم فى عام 1977 مع فاروق حسنى (وزير الثقافة الأسبق) الذى كان ملحقاً ثقافياً فى سفارة مصر فى باريس، ومع عدد آخر من الفنانين المصريين فى إنشاء مركز للتجارب الفنية المصرية والعالمية، فيما سمى السمبوزيوم. وقد أنشئ هذا المركز فى مدينة أسوان. ولا يزال قائماً حتى الآن. وهو يستقبل دائماً الفنانين المصريين والأجانب، الذين يبدعون ويتركون آثار إبداعاتهم فى ذلك المركز. لم يكن يحتاج آدم حنين لكثير من الجهد لكى يتحول إلى ظاهرة فنية مصرية وعالمية. وقد صار محترفه ملتقى للفنانين العرب والأجانب. وصار يسافر إلى شتى بقاع الأرض من محترفه هذا بالذات. لكنه ظل مشدوداً إلى وطنه مصر وإلى تاريخها. وهو ما يزال يسهم من محترفه الرائد فى بناء مدرسته الفنية، مكملاً بذلك ما كان قد سبقه إليه رواد كبار فى فن النحت وفى فن الرسم وفى كل ما يتصل بهذين الفنين العظيمين من إغناء للثقافة فى وجوهها المختلفة. يزدحم محترف آدم حنين بالزوار من كل أنحاء العالم. يأتون إليه للتعرف إلى شخصيته وإلى مدرسته فى النحت والتصوير، وإلى أفكاره وفلسفته، وإلى التعرف عن كثب على أعماله المعروضة فى حديقة المحترف. ويعد أهم هذه المعروضات سفينته المشهورة، "سفينة آدم". وهى السفينة التى أنجزها بين عام 2000 و 2004. وهى تمثل، كما يحب هو أن يعرفها للآخرين، تعبيراً فنياً جامعاً عن جملة شواغله وتطلعاته، وعن فلسفته أيضاً. فهى تجسد، بالنسبة إليه، فكرة العبور والطواف فى الأرض والتنقل بين الأزمنة. وتقول الدكتورة فاطمة اسماعيل التى تقدم دراسة عن آدم حنين فى القسم الأخير من الألبوم الذى يضم مجموعة مختارة كبيرة من أعمال آدم حنين، تقول فى قراءتها لسفينة آدم بأنها "سفينة تمضي، ولا تلوى على شيء، حاملة دلالتها المشدودة إلى 'فكرة النور‘. وليست 'سفينة آدم‘ فى الحقيقة سوى صورة عن عذابنا الروحي. حتى أن الحجر المنحوت فى هذه السفينة مسامياً هو أشبه ما يكون بكائن ينبض ويختلج ويتألم. وقد أطلق عليها الفنان أيضاً اسم زوجته الراحلة عفاف". أما آدم فيقول عن السفينة جواباً عن سؤال وجهته إليه الدكتورة فاطمة اسماعيل: "تكشفت لى صورة السفينة فى إحدى ليالى صيف عام 2000. كنت مستلقياً على ظهرى فوق كتلة كبيرة من الجرانيت الأسود، فى حديقة مرسمى بالحرانية. وكنت أتملى صفحة السماء وأتجاذب أطراف الحديث مع مساعدى محمود. كانت الشمس قد شارفت على المغيب وخيم على المكان سكون ساحر. بدت لى السماء مختلفة بعض الشيء عن صورتها المعهودة. وأحسب أن نوعاً من القلق الروحى خامرنى فى تلك اللحظة، فوجدت نفسى أسترجع تجاربى فى النحت، وشعرت أن الفراغ الموجود من حولى قد تبدلت صورته، وأنه بات أمراً ملحاً أن أشغل هذا الفراغ. فطلبت من محمود أن يحدد لى على الأرض مسافة 15 متراً، ولا أعلم من أين جاءنى هذا التحديد الرقمي، أى الخمسة عشر متراً. كانت فكرة عرض العمل النحتى فى متحف أو قاعة تؤرقني. ذلك أن شكل العرض هذا يبدو لى مفتعلاً وقسرياًَ لأنه يضع المنحوتة داخل فضاء يخالف فضاء مسكنها الطبيعي. وكنت أحاول تجاوز هذه المشكلة عن طريق عرض تماثيلى فى حديقة مرسمي. على أن النتيجة لم تكن مرضية تماماً. وخيل لى أن السفينة هى الحل، وتذكرت فجأة أن لى رسومات تخطيطية بدأت بها فى السبعينات وانطوت على صورة تمثال من أعمالى محمولاً على مركب. فى اليوم التالي، قمت بإعداد مجسم (ماكيت) صغير للسفينة، وشعرت حينئذ بأننى لقيت الحل المناسب، فتنفست الصعداء. ويقوم هذا الحل على إسكان التماثيل فى مكان يتلاءم معمارياً مع فضاءات أنشئت من أجلها، كما هى الحال فى الكنيسة والمعبد والمدن والقصور القديمة. واكتشفت أثناء العمل أشياء لم أكن أعرفها فى السابق، وفى مقدمها أن التماثيل، لدى وضعها على السفينة، صارت تحمل معانى جديدة ذات طابع ميتولوجي، ناهيك عن أن العلاقة نفسها بين التماثيل تبدلت. هكذا ظهر لى أننى عثرت أخيراً على ما كنت أبحث عنه. علاوة على ذلك، ظهر لى أن التماثيل المنتشرة داخل الحديقة والمحيطة بالسفينة - مثل "المعزة" و"المحارب1" و"نبتة" و"البومة" و"نافذة" و"ثقة" وغيرها – باتت تنتسب إلى عالم واحد ومتناغم تجسده السفينة". من الصعب أن يختصر أى حديث من هذا النوع سيرة آدم حنين الفنية كظاهرة، لا سيما إذا جاء هذا الحديث من شخص لا يمتلك فى علاقته بالفن إلا الإستمتاع بالمشاهدة والتأثر الروحى بها. لكن ما أود التأكيد عليه من خلال معرفتى بآدم حنين ومن خلال زياراتى لمحترفه ومشاهدة المعرض التاريخى له، ومن خلال الإستمتاع الدائم بالألبوم الذى يضم مجموعة كبيرة من روائعه، ما أود التأكيد عليه هو أننا مع آدم حنين أمام ظاهرة فنية كبيرة، يستكمل بها هذا الفنان الكبير ويطور مدرسة فنية مصرية كبيرة ورائدة، لها رموز كبيرة ومعروفة. لمزيد من مقالات كريم مروَّة