فى مثل هذا الوقت من ديسمبر 2014 كان «بيت مدكور» الذى يعد أحد أجمل بيوت القاهرة التاريخية ، يهتز تحت وطأة أصوات بلدوزرات حى وسط القاهرة التى تتحرك من شارع سوق السلاح بعد أن أتمت مهمتها بهدم «بيت المهندس» , إلى شارع الدرب الأحمر لتبدأ مهمة هدم جديدة فى بيت مدكور.. وقتها تحركت ( الأهرام ) وكانت أسرع من بلدوزرات الحى ونجحنا على مدى عام كامل فى إنقاذ البيت التاريخى ، وفى لفت نظر المسئولين لأهمية المدينة التاريخية وإنقاذ ما تبقى من نسيجها المعمارى ذى الطراز المميز ، وكانت زيارة رئيس مجلس الوزراء السابق المهندس إبراهيم محلب للحى وللبيت بمنزلة حائط صد قوى أمام كل جحافل الهدم والتخريب .. لكن المحاولات لم تنته ، وإن توقفت قليلا ، وقبل أن يكتمل العام تحرك رجال حى الجمالية ليقوموا بما يعتبر «إنهاء رسميا» لوجود بيت مدكور بعد أن تم قطع الكهرباء والمياه عنه ورفع عدادات الكهرباء والمياه ، ولم يتحقق حتى الآن وعد جهاز التنسيق الحضارى بإعادة تسجيل البيت الذى خرج من قائمة الطراز المعمارى بعملية تحايل لم يحسم المسئولون حتى الآن إن كانت حقيقية أم بأوراق مزورة. مرة أخرى نكتب عن بيت مدكور لندافع عن التاريخ والجمال والبيوت ونسيج القاهرة التاريخية . ونبدأ بآخر تحذير صدر عن منظمة اليونسكو قبل أن ينتهى عام 2015 ، فقد جاء فيه ما يلي: (يلاحظ مع بالغ القلق والاهتمام قدر الفقد والانتهاك غير القابل للاسترجاع فى النسيج العمرانى للقاهرة التاريخية والذى يصعب جدا من دور الدولة وقدرتها على استدامة القيم العالمية المميزة لتلك المنطقة )، وترجمة هذه الفقرة بشكل عملى تعنى أن المنطقة التاريخية التى سجلتها اليونسكو منذ السبعينيات ضمن قوائم التراث العالمى باتت مهددة بالخروج منه ، بينما حمل بند آخر من رسالة اليونسكو للحكومة المصرية مطلبا شديد الوضوح وهو ( الرجاء من الدولة اعتماد ضوابط أكثر صرامة فيما يتعلق بأعمال الهدم والبناء حتى يتسنى الحفاظ على النسيج العمرانى الحالى ) . ثم يأتى طلب آخر من منظمة الأممالمتحدة للفنون والعلوم والثقافة وهو ( نطلب من الدولة تقديم تقرير محدث لمركز التراث العالمى بغضون شهر ديسمبر من عام 2016 للوقوف على حالة الحفاظ على المبانى وتنفيذ ما سبق التوصية به وذلك للعرض على لجنة التراث العالمى بجلستها رقم 41 لسنة 2017 ) وبتحذير أكثر وضوحا ، فإن هذه اللجنة التى ستعقد بعد أقل من سنتين ستقرر إما بقاء القاهرة التاريخية ضمن قائمة التراث العالمى أو خروجها من القائمة خاصة أن هذه التحذيرات لم تكن «الأولى» التى تطلقها اليونسكو من أجل القاهرة التاريخية ، ولكنها ربما تكون «الأخيرة» كما تقول لنا الأستاذة شهيرة محرز عضو حملة القاهرة التاريخية وواحدة من المتخصصين فى التراث الإسلامى ، والتى تضيف : «اليونسكو عندما تتعامل مع التراث العالمى لا تتعامل مع مبان أو معالم تاريخية مفردة بل تتعامل مع مناطق متكاملة أو ثقافات أو حرف تمثل جزءا من التراث الحضارى العالمى الذى يجب الحفاظ عليه كاملا ، وهو أمر لا يدركه المسئولون لدينا ، فالقاهرة التاريخية التى سجلتها اليونسكو منذ منتصف السبعينيات ، كان يعنى فيها بكل تفاصيل المدينة القديمة من مساجد وبيوت ووكالات وشوارع وحتى الحرف والعلاقات الاجتماعية المتوارثة ، ولكن بعد أقل من أربعين عاما على هذا فقدت المدينة جزءا ضخما من هذا التراث وتشوهت ملامحها ، سقطت بيوت ووكالات وتغيرت معالم الشوارع ، والتهمتها عمارات قبيحة المنظر ، وبالتالى فتحذير اليونسكو لابد أن نأخذه بمنتهى الجدية لنحافظ على ما تبقى لدينا «بيت مدكور» بحكم تاريخه ومساحته وجمال طرازه المتراكم لأكتر من 150 عاما هو جزء من هذا النسيج العمرانى للمدينة التاريخية سعينا على مدى عام كامل للحفاظ عليه والدعوة لإنقاذه وإعادة استخدامه ليكون نموذجا لما يمكن أن يحدث لعشرات البيوت التاريخية ومازالت توجيهات رئيس الوزراء السابق المهندس إبراهيم محلب للمسئولين عندما زار البيت قبل 4 أشهر عالقة فى أذهاننا فقد أوصى بسرعة إنقاذه، بل واقترح أن يتم تحويله إلى فندق تاريخى نظرا لكبر مساحة البيت التى تزيد على 2300 متر، ولكن للأسف لم يتحرك أحد. كما أن محافظة القاهرة اكتفت بتنظيف الشارع وقت زيارة رئيس الوزراء ثم عادت كل الأمور لسابق عهدها وعاد أصحاب البيت فى سعيهم المستمر من أكثر من عشر سنوات من أجل هدم البيت وبيع أرضه الواسعة كأرض فضاء . الهدم الذى يسعى إليه ملاك بيت مدكور يبدو أنه فعلا فى طريقه للحدوث ، فقبل حوالى أسبوع تحرك رجال حى الجمالية ليذكروا السكان بما كان يحدث لهم قبل عام مضى - على حد تعبير محمد نسيم أحد سكان البيت وقاموا بفصل التيار الكهربائى عن البيت وإغلاق ماسورة المياه ثم خلع عدادات الكهرباء والمياه ، وهو ما يعنى أن البيت «لم يعد له وجود قانوني» يمكن أن يتعامل السكان من خلاله.. ويقول نسيم : «كنا قد بدأنا نطمئن أنهم لن يهدموا البيت ولكن بمجرد أن هدأ الإعلام واختفى المسئولون الذين كانوا يظهرون فى الزيارات الرسمية بدأت عملية التحرك من جديد ويبدو أن الإصرار على هدم البيت مازال قائما وكل الوعود التى تلقيناها من المسئولين تبخرت فى الهواء ، فلا التنسيق الحضارى - كما علمنا - قام بإعادة البيت لقائمة الطراز التى خرج منها عام 2011 بالتحايل والتخريب ولا المحافظة حولت البيت لفندق - كما اقترح رئيس الوزراء السابق عندما زار البيت فى شهر أغسطس الماضى - وما يحدث الآن أنهم يفرغون البيت من سكانه بقطع الخدمات عنه وإلغاء وجوده القانونى لتنفيذ قرار الهدم الذى مازال قائما مادام البيت خارج حماية قانون التنسيق الحضارى وخارج اهتمام المحافظة , وقد تقدمنا بالفعل باستشكال على قرار الهدم وعلى الإجراءات التى اتخذت لتنفيذه حتى نحافظ على وجود البيت لحين تحرك المسئولين للحفاظ على الطراز المعمارى والبيوت التاريخية». نسابق الزمن لتسجيل البيت كالمعتاد كان رد المسئولين بمحافظة القاهرة هو نفى حدوث الهدم وتأكيدهم ان القرار لن ينفذ ويستلزم إجراءات كثيرة والأمر لا يستدعى القلق ، بينما جاء رد دكتور هابى حسنى المدير التنفيذى لجهاز التنسيق الحضارى يحمل بعض الأخبار الطيبة فكما قال لنا عندما سألناه عن البيت وما تم اتخاذه من إجراءات لإعادة تسجيله :«نحن نسابق الزمن لإعادة تسجيل البيت ، وما اتخذ من إجراءات من جانب الحى حدث بسبب قرار الهدم القديم، وهو إجراء طبيعى خاصة أن إيقاف الهدم صدر بقرار من محافظ القاهرة وعلى مسئوليته الشخصية ، وبالتالى فالوضع الآن بيد رئيس الوزراء شخصيا، أو بالتحديد وزير الإسكان الذى تم تفويضه للتعامل مع هذا الملف وبشكل واضح فالبيت تعرض فعلا للتدمير، خاصة واجهته التى أحرقت قبل أكثر من أربعة أعوام وأصبحت مهددة بالسقوط وهى السبب فى خروجه من قائمة الطراز المعمارى حسب القانون 144 وقانون البناء الموحد 119 وما نفعله الآن أننا نحاول تسجيله من مكان آخر بخلاف الواجهة الموجودة بشارع الدرب الأحمر فالبيت له أكثر من واجهة ، وأظن أننا قاربنا على الانتهاء من عملية التسجيل وبقيت بعض الموافقات الرسمية » سألته : وماذا لو تمكن الملاك من تنفيذ قرار الهدم قبل التسجيل ؟ قال :«حتى لو تمت عملية الهدم لن يستطيعوا البناء مرة أخرى فالمحافظة أوقفت جميع عمليات البناء هناك لحين مراجعة التصاريح كما علمت ، ولكن بحكم القانون جهاز التنسيق الحضارى لا يملك شيئا سوى تقديم أوراق بالتوصية لإعادة التسجيل تقدم للجنة الحفاظ على التراث المعمارى بالمنطقة الغربية ، وهى بدورها ترفعها إلى المحافظ الذى يرفعه بدوره لرئيس الوزراء ليصدر القرار من خلاله» قلت له : شراء البيوت من أصحابها وإعادة ترميمها وتسجيلها احد الحلول المهمة المطروحة من قبل الكثيرين .. فهل يمكن أن يسهم الجهاز فى هذا ؟» رد قائلا :«هذا حل جيد جدا ولكنه ليس دورنا ، فنحن كجهاز لانملك سوى رفع توصيات وتقديم حلول وتصورات والتنسيق مع الجهات المعنية وميزانية الجهاز نفسها لاتزيد على 5 ملايين جنيه سنويا فقط نعتمد عليها فى إدارة المكان وتشغيل الموظفين ، وهذه الفكرة تحتاج لميزانية خاصة تتكفل بها الدولة» .