ويكون أن ثلاثة منا يرون البحر منبسطا, وموج البحر منحسرا, فنصعد فوق رابية تطل علي المدي. وكأن نري سفنا محملة بكل كنوزها, فيعود واحدنا بفرحته إلي الأسواق, يبقي اثنان كي يستشرفا الأفق البعيد, بشارة الآتي, يموج الناس في صخب, ويشتبك الكلام! هل كان وهما ما رأيناه, وما اهتزت له أحداقنا؟ هل كان رؤيا في منام؟ كنا ثلاثة عابرين, أتاحت الأقدار فرصة أن يكونوا عند شط اليم, فوق رماله العطشي, ينازعهم حنين جارف للبحر, توق للمغامرة التي حلموا بها زمنا, وهم يتطلعون إلي البعيد, وفي البعيد الشاطئ المجهول, رمز حضارة أخري, وعنوان افتتان بالجمال, وفي حنايانا ثقوب للهيام! عدنا من الإسكندرية وهي حبلي بالغيوم ثقيلة, وتنوء بالوعد الذي يلقاه زائرها, فينتظر العطايا حين يقبل ظامئا في كل عام. شفق شفيف يغسل الجو الرهيف, ونسمة في الليل باردة, وتوق باسط في أفقها ظل ابتسام. إسكندرية وعدنا المكتوب, حلم ثلاثة فتنوا بها, وتطهروا, وتعاهدوا أن يقصدوها كلما اشتد الزحام. وتباعدت أيامهم في رحلة المعني, وقد ضاقت بهم, فتراجع الوعد القديم, تراجعت منا الخطي, والآن نذكرها ونذكر عندها عش اليمام. في سقف شرفتها المطلة فوق بحر لا ينام, في فندق يسع الجميع كأنه من أجلنا- نحن المذيعين الحياري- شيدوه, فأصبح النزلاء فيه كأنهم أصحابه الثقلاء, لا يرضون عن شيء, ولا يرضي شهيتهم شراب أو طعام. فلتنسكب في الرمل دمعة وامق, وليبق ملء القلب موال انسجام! ها أنت تذكرها وقد غاب الرفيقان اللذان قضيت بينهما زمانا, هل سعدت به؟ وهل شقيت لياليك التي كانت تدور بها حكايات وأوهام وشيء من طموح واغتراب واتصال, وانفصام. كان الزمان زمان فتك واقتحام. كل يصوغ حياته وفقا لغايته, ويجهد أن يكون لها حدود أو زمام. قد كان يجمعنا نباح القافلة, من أجلها كنا نسافر في مكان أو زمان. لا يوم إلا وهو تاريخ يضاف إلي الفتوحات العظام. وكلامنا الصخاب منهمر, ولا يبقي سوي هذا الكلام! كم قيل لي من ناصح: أتعبتمو التاريخ, والتاريخ عين لا تنام. خلوه أبعد ما يكون عن الذي تصفون من هزل ومن كذب يدار علي الجماهير التي سكرت وأفسدها الغرام! فإذا انتهينا من مواكبهم نعود لما نجيد من البرامج والشواغل, لا نطيق وشاية تروي, ولا نسعي لمائدة اللئام. كل له درب سيمضي فيه, مشدودا إلي الأقصي, من البدء الذي قد سار فيه, إلي سويعات الختام! قد كان في أعناقنا دين لهذي الأرض, يلزمنا, وترعاه المودة والوئام. لم نشك يوما من سهام عداوة, أو فيض أحقاد, وظل من خصام. كنا, ثلاثتنا, نذوب إذا التقينا, في صفاء غامر, ورحابة تسع الكثير من المقالب والمشاكسة التي تغري, وشيء من منافسة, وأحيانا صدام. لكننا لم نستجب يوما لطيش عارم, يودي بصحبتنا, ويشعرنا بعار وانهزام! بقيت لنا من بعدنا, إسكندرية, وهي نور القلب والعقل اللذين تربيا فيها, وصاغا من فضائلها سياج محبة للحكمة الأسني, ومن أورادها حب الحضارة والثقافة والسلام. فعلي منابرها صدحنا بالغناء العذب, بين شبابها الموعود, فالتفت عناقيد الجمال وأورق الحلم البديع وأينعت دوما مشاتلها بأعناق الرحيق المستهام, تضوع في حضن الربيع, تذيب من إبداعها أحلي مدام. سنظل نذكرها ونذكر شاطئا فيها, وغيما ممطرا وهدير بحر صاخب, والكون إيقاع, وفرحة عاشقين تلاقيا, ذابا وغابا بين زخات الغمام. واليوم تشغلني لياليها, صحائف عمرنا الماضي, وتحدو خطوي الذكر البعيدة, لا أكاد أفيق منها, والصحاب تباعدوا وتفرقوا- هل جاء ميقات الشتات؟- هواجس القلب العليل تئودني, وهناك تتركني علي موجاتها أطفو, كأني من سفائنها بقايا من حطام! المزيد من مقالات فاروق شوشة