استخبارات سول تحقق في تزويد بيونج يانج موسكو بالأسلحة    مساعد رئيس تحرير «الوطن»: إسرائيل منبوذة دوليا.. وبايدن «بين نارين» بسببها    بعد انخفاضها.. أسعار الفراخ والبيض في الشرقية اليوم الإثنين 13 مايو 2024    مناقشة آليات تطبيق رسوم النظافة بمنظومة التخلص الآمن من المخلفات بالإسماعيلية    ارتفاع عدد القتلى إلى 14 شخصا جراء قصف قوات كييف مبنى سكني في بيلجورود    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    اليوم| محاكمة متهمي قضية اللجان النوعية    مؤلفة مسلسل «مليحة»: استخدمنا قوة مصر الناعمة لدعم أشقائنا الفلسطينيين    الإثنين 13 مايو.. توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية    ارتفاع «حديد عز».. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 13 مايو 2024    مقتل وإصابة 15 شخصا في إطلاق نار خلال حفل بولاية ألاباما الأمريكية    هل يجوز التوسل بالرسول عند الدعاء.. الإفتاء تجيب    جيجي حديد وبرادلي كوبر يرقصان في حفل تايلور سويفت (فيديو)    وزير التعليم: طلاب المدارس الفنية محجوزين للعمل قبل التخرج    بعد بيلوسوف.. أبرز تغييرات بوتين في القيادة العسكرية الروسية    بعد تعيينها بقرار جمهوري.. تفاصيل توجيهات رئيس جامعة القاهرة لعميدة التمريض    قرار عاجل من اتحاد الكرة بسبب أزمة الشحات والشيبي    بطولة العالم للاسكواش 2024.. مصر تشارك بسبع لاعبين في الدور الثالث    «اللاعبين كانوا مخضوضين».. أول تعليق من حسين لبيب على خسارة الزمالك أمام نهضة بركان    تدريبات خاصة للاعبي الزمالك البدلاء والمستبعدين أمام نهضة بركان    خطأين للحكم.. أول تعليق من «كاف» على ركلة جزاء نهضة بركان أمام الزمالك    أزهري يرد على تصريحات إسلام بحيري: أي دين يتحدثون عنه؟    وزير التعليم: هناك آلية لدى الوزارة لتعيين المعلمين الجدد    حدث ليلا| زيادة كبيرة في أراضي الاستصلاح الزراعي.. وتشغيل مترو جامعة القاهرة قبل افتتاحه    تشديد عاجل من "التعليم" بشأن امتحانات الشهادة الإعدادية (تفاصيل)    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 13 مايو بعد انخفاضه في 7 بنوك    بالصور.. نائب القاهرة للمنطقة الجنوبية تكشف تفاصيل تطوير مسجد السيدة زينب    الأزهر عن اعتزام مصر دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام «العدل الدولية»: تليق بمكانتها وتاريخها    افتتاح مسجد السيدة زينب.. لحظة تاريخية تجسد التراث الديني والثقافي في مصر    بالفيديو.. كواليس تدريب تامر حسني ل بسمة بوسيل على غناء "البدايات"    وكيل «خارجية الشيوخ»: مصر داعية للسلام وعنصر متوازن في النزاعات الإقليمية    لا أستطيع الوفاء بالنذر.. ماذا أفعل؟.. الإفتاء توضح الكفارة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك أن تستجيب دعواتنا وتحقق رغباتنا وتقضي حوائجنا    «من حقك تعرف».. هل المطلقة لها الحق في نفقة العدة قبل الدخول بها؟    منها تخفيف الغازات والانتفاخ.. فوائد مذهلة لمضغ القرنفل (تعرف عليها)    سر قرمشة ولون السمك الذهبي.. «هتعمليه زي المحلات»    مسلسل لعبة حب الحلقة 24، فريدة تعلن انتهاء اتفاقها مع سما    قصواء الخلالي تدق ناقوس الخطر: ملف اللاجئين أصبح قضية وطن    الأمن يحل لغز العثور على جثة شاب أمام وحدة إسعاف في قنا    بسبب سرقة الكابلات النحاسية، تعطل حركة القطارات في برشلونة    استثمار الذكاء الاصطناعي.. تحول العالم نحو المستقبل    العدو يحرق جباليا بالتزامن مع اجتياج رفح .. وتصد بعمليات نوعية للمقاومة    أمير عزمي: نهضة بركان سيلجأ للدفاع بقوة أمام الزمالك في الإياب    «الإفتاء» تستعد لإعلان موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات قريبًا    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد مستشفى الحميات وتوجِّة باستكمال العيادات (صور)    أربع سيدات يطلقن أعيرة نارية على أفراد أسرة بقنا    رئيس مجلس الأعمال المصري الماليزي: مصر بها فرص واعدة للاستثمار    مستقبل وطن بأشمون يكرم العمال في عيدهم | صور    الكشف على 1328 شخصاً في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    نقابة الصحفيين: قرار منع تصوير الجنازات مخالف للدستور.. والشخصية العامة ملك للمجتمع    وقوع حادث تصادم بين سيارتين ملاكي وأخرى ربع نقل بميدان الحصري في 6 أكتوبر    ليس الوداع الأفضل.. مبابي يسجل ويخسر مع باريس في آخر ليلة بحديقة الأمراء    وفاة أول رجل خضع لعملية زراعة كلية من خنزير    عمرو أديب يعلن مناظرة بين إسلام البحيري وعبدالله رشدي (فيديو)    وزيرة الهجرة تبحث استعدادات المؤتمرالخامس للمصريين بالخارج    رئيس جامعة المنوفية يعقد لقاءً مفتوحاً مع أعضاء هيئة التدريس    الأعلى للصوفية: اهتمام الرئيس بمساجد آل البيت رسالة بأن مصر دولة وسطية    منها إطلاق مبادرة المدرب الوطني.. أجندة مزدحمة على طاولة «رياضة الشيوخ» اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
رقصة الحب التي لا نهاية لها
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 12 - 2015

يا إلهي تمتمت بنداء الخالق بعد إمتلكت السيطرة علي نفسي, وجمعت أجزائي المتناثرة من التشتت الذي أعيشه معظم الوقت, فما حدث لابد من الإعتراف به, وهو إعتراف لن يتذكره أحد سواي; فلا أحد يهتم بما حدث لي من تغير شامل وأساسي, وراح يدير عمري منذ التاسعة عشرة; ولسنوات طويلة منذ ذلك الزمن الذي بدأ لحظة التقت عيوني بعيونها , فجاءت إغفاءة بسيطة لكل منا; رغم يقظة كل منا تماما ورأي كل منا شعاعا يخرج من عيون كلينا ليستخرج قلب أي منا من بين الضلوع; ليعيد تشكيله ليصبح قلبها علي هيئتي, وليصير قلبي علي هيئتها.
نعم أصبحت لقلب أي منا ملامح مختلفة, فقد تحول من الشكل الموجود في كتب الطب ليصير قلب أي منا هو صورة للآخر بكل تفاصيلها و ملامحها. ثم عاد قلب كل منا إلي مكانه; ليدق بين الضلوع. وصار من الطبيعي_ من بعد ذلك_ أن يصبح أي منا هو سبب وحيد يتمني أن يعيش من أجل الآخر.
ولم نستطع أن نبقي هذا الأمر سرا, فالحب هو السر الوحيد الذي يفضح نفسه, بتغير الصوت وبريق العيون, ولهفة الكلمات, وتناغم الصوتين حين ينطق أي منا إسم الآخر. وكيف أصبحنا منذ ذلك التاريخ مجرد كائنين يرغب أي منا في أن يلفت كل العيون إلي الشمس الشخصية الصغيرة التي تضيء أيامه.
عشت معها الحب بنزقه وجنونه, وذكائه وغبائه, وحيويته التي تتحدي الموت إلي أن صار صداقة يتداخل بها أيا منا في حياة الآخر. ثم تجري الأيام إلا ما لم أتوقع, فقد وصلني خبر صعود روحها علي سرير مستشفي فرنسي بجراحة كان يمكن أن تتم في أي مستشفي مصري. ولحظتها صرخت في داخلي يا إلهي.. لماذا كتبت علينا الحب ثم الإبتعاد ثم كتبت لها مثل تلك النهاية؟ صحيح أن مسار حياة أي منا إختلف بعد أن أصرت علي البقاء كأستاذة جامعية في واحدة من جامعات أوروبا, وصحيح أني رفضت السفر لإرتباطي بعملي ككاتب صحفي يقتحم النفس البشرية ويدور مصر من أقصاها إلي أقصاها, ويحفظ وجوه البشر ويقرأ أحلامهم, وفوق كل ذلك كان هناك ما أومن بضرورة ومواصلة تحقيق ما حلمت به لنفسي, وهو تقديم وإعداد برنامج تحت العشرين بإذاعة الشرق الأوسط, وكان حديثي إلي الشباب هو ما يشغلني منذ أن كنت أخطو في ردهات مراهقتي التي إزدحمت بأحجار الخطايا وأزهار الأمل. ولولا صداقة نشأت بيني وبين أستاذ علم نفس هو د. سعد جلال لما أستطعت أن أكون هذا المؤمن بنفسه وبأحلامه. ولم يكن د. سعد سوي هذا الإبن الذكي لطه حسين, فقد نال ليسانس آداب التاريخ بمرتبة الشرف, وقال له د. طه حسين أن تتفوق في تاريخ الشعوب, فهذا رائع. لكن ما رأيك في أن تجعل كل إنسان قادر علي أن يقرأ تاريخ أعماقه ؟ أنا أرشحك لتدرس علم النفس في جامعة إستانفورد بالولايات المتحدة. طبعا فرح سعد جلال بهذا الاختيار ليصبح من بعد ذلك أستاذا لشقيقي الأكبر وارتبط معه بصداقة وثيقة استمرت منذ عام1955 إلي أن رحل عن عالمنا في أواسط الثمانينيات. وظل في الذاكرة هو هذا الصديق الذي حقق لي حلم مراهقتي بأن تكون لي صداقة مع من يقدم لي جسور الأمل لتسير عليه أحلامي كي تكون واقعا, ولذلك كان أحد أحلامي أن أكون جسرا تسير عليه أحلام ما يأتون من بعدي وأن أقدم لمن يسمعني خريطة اكتشاف المستقبل; ولهذا فرحت بما قدمه لي الإذاعي الكبير الراحل طاهر أبو زيد من فرصة لتقديم وإعداد برنامج تحت العشرين; فاعتبرته الرسالة الأساسية لأيام عمري.
.................
ولم أنس يوما حق الشباب في الحب, ولم أنس أبدا أني حين تقدمت لمن أحب جاء رفض والدها لي; مازلت أذكر تلك الوقفة التي وقفتها معها في سنترال التليفون بشارع عدلي لنتحدث إلي والدها بالإسكندرية ولتحدد لي موعدا من الأب قبل أن تسافر للدراسة واستكمال رحلتها العلمية, ثم لقائي به في أثينيوس المقهي السكندري الذي كنت أفضله أثناء سنوات الدراسة لأنتظرها ونتأمل الميناء الشرقي بجلال صفائه.
وبإختصار كان اللقاء هادئا باردا بين أب يريد لإبنته عريس جاهز لا شابا في مقتبل العمر. فكان الرفض النفسي المتبادل هو موجز اللقاء, وتبعه بالتالي إبلاغها برفض والدها ووالدتها لفكرة زواج إبنتهم المتفوقة من كاتب شاب, فالأب يعلم عشرات من أسماء الكتاب الذين دخلوا المعتقلات سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها, واغلبهم يعملون في مهنة الصحافة والكتابة. والأم تعلم عن طريق أقاربها النافذين في دوائر العليا أن حياتي تمشي علي كف عفريت إسمه الإندفاع الذي تتضح حكمته بعد فترة من الزمن, وأن هذا الإندفاع الذي يبطن حكمة غير مقصودة وهو الذي فتح لي باب قلب عديد من كبار صناع القرار, فصرت القريب من مكتب جمال عبد الناصر ولي صداقات مع كبار المسئولين. وصحيح أيضا أنها تفضل لإبنتها عريسا من الذين يمشون بجانب الحائط. ولم تكن الحبيبة قادرة علي الإستغناء عن عملها والبقاء كزوجة لكاتب شاب. ولم يكن الكاتب الشاب قادرا علي أن يحقق للإبنة أو عائلاتها أي ضمان لحياة مستقرة تحفظ مواعيد أعياد الميلاد وكيفية شراء الهدايا في المناسبات ولا الأكل في مواعيد ثابتة ولا إنتظار الترقية من درجة وظيفية إلي أخري.
وقررنا الهرب إلي الأمام, هي تسافر للدراسة وأبقي أنا بقاهرتي لعل شيئا يتغير في واقعنا. و مازلت أذكر كيف تحولت القاهرة بعد سفرها إلي منفي لقلبي, وصارت باريس التي تدرس فيها هي بيت أحلامي. سنوات من جنون فريد, تطاردني فيها شوارع القاهرة بما عشناه معا من أحلام استمرت عامين قضتهما بالقاهرة في منزل المغتربات استعدادا للسفر, وتحولت جدران المدينة بعد سفرها إلي مالا أطيق, ثم سفري إلي باريس لأقضي معها شهورا أشرب فيها من نهر المعرفة ما يفوق أي خيال, لكني لم أملك طاقة تدليس تدفعني إلي قبول آراء سفيرنا هناك, فأختلف معه خلافا صاعقا, ليصلني بعد ذلك من شعراوي جمعة الذي عمل نائبا لمدير المخابرات أن جمال عبد الناصر أصر في اليوم الخامس بعد23 يوليو آلا يبيت شخص مثل ذلك الرجل بالقاهرة; لأن المعلومات قد وصلته بأنه أبلغ الملك فاروق ببعض من أسماء تنظيم الضباط الأحرار, وأخبر الضباط الأحرار بأن الملك قد عرف بعضا من أسمائهم, وقطعا لكل ريبة بعثه جمال عبد الناصر كملحق في سافرتنا بمدريد. ومن العجيب أنه اشترك بعض الوقت في عملية توصيل السلاح لثوار الجزائر, لكنهم رفضوه كسفير لعبد الناصر لديهم, كما فعلت المغرب نفس الأمر; لأنه غير مأمون الجانب. ولكن حدث وأرسله عبد الناصر بعد سنوات في منصب سفير مصر في باريس, مصحوبا بشاب هو محمد شكري حافظ الضابط الذي فضح شبكة تجسس تدار من كنيسة إنجليزية كان موقعها نهاية مترو مصر الجديدة; وعينه عبد الناصر ليدير علاقتنا مع فرنسا. وبطبيعة الحال, وبحكم إختلافي السفير حول أخبار كاذبة يحاول أن يدسها علي شخصي, لذلك جعل حياة حبيبتي قطعة مصغرة من الجحيم.
.................
وأصابت العلاقة بيني وبين من أحبها عين الحسود السري الذي يوجد في أعماق أي واحد من البشر, حسود يبني المسافة بين أي إثنين من العشاق; مسافة من التقاليد والعادات والقيود الأسرية; فعندما يدق الحب أبواب ميلاده دون النظر إلي التقاليد والمحاذير فكيف لكاتب شاب يخطو مشوار بداياته أن يواجه هذا القدر الهائل من الجنون الناتج من تصادم الصورة الاجتماعية مع الصورة الخاصة لعلاقة كان لابد أن تكون أبدية.
ولا أدري كيف أطلقنا رصاصات الاغتيال علي تلك القصة التي تمثل جوهر العمر, وصرت_ أنا_ من بعدها كائنا يعيش مع تذكارات موسيقي العناق والافتراق في أدق التفاصيل التي دارت بيننا.
ثم حدث ما لم أتوقعه. فبعد أن أيقنت أن حبنا لا مستقبل له من فرط تسلل عدم الثقة في أننا لن نستطيع توفير شقة تليق بواحدة من عائلة كبيرة, ولن أستطيع أن أتحول إلي زوج الهانم الذي سيعيش معها في بلاد الخارج حيث تعمل, لذلك قررنا إتاحة الفرصة لطائر الحب أن ينتحر. وسار كل منا إلي حياة يراها مقبولة.
كنت أعلم أن قلبي قادر علي أن يضم أكثر من قصة حب, وكانت تظن أنها قادرة علي اغتيال الحب واستبداله بحياة مع مثقف أكاديمي. نجحت أنا في قصة حب جديدة صارت زواجا, أسسته مع من إمتلكت قدرة علي أن تدخل حياتي لتديرها في بيت مستقر, ولكن الحبيبة لم تستطع أن تتعايش مع فكرة الحياة مع كائن آخر. وصار ما بيننا تواصل يحمل أشواقا وعتابا لا يفرغ أبدا, فهي تحملني مسئولية فشل الحب. وأحمل أنا نفسي عجزي عن أكون زوج الأستاذة التي تدرس الحضارة المصرية خارج الحدود.
وكلما جاءت كلمة الحب أمام عيوني أو في خيالي, فحديث الإنكسار الذي حدث يطل في أعماقي.
وفي رحلة إلي نيويورك بعد رحيل الحبيبة, إلتقيت بطبيبة نفسية صارت صديقة ليدور بيننا حوار يستمر لسنوات, حوار يحسدني عليه سيد الطب النفسي المصري د. أحمد عكاشة, ودائما أقول له عنها أني لا أدري من أين جاءت بنسيجها الإنساني الخلاب حيث تعيش في نيويورك شاهدة علي مدينة إنتقلت من البداوة إلي الهمجية دون أن تمر بمرحلة التحضر, رغم ما فيهامن تقدم آلي مذهل.
.................
وكثيرا ما يدق رنين السكايب عبر شبكة الإنترنت, تلك الوسيلة التي ألغت المسافات بين القاهرة ونيويورك, ليصلني صوت مارلي التي صارت صديقة أساسية في حياتي. أذكر أني التقيت بها لأول مرة وأنا أتلقي صدمة افتقاد من أحببت, حيث خطفها مني ملك الموت علي سرير جراحة في باريس. وأذكر دوامة الجنون اللاهث الذي انفجر في أعماقي, فمن المفترض أني ومن أحببت قد اتفقنا علي أن الحب بيننا قد مات منذ سنين, ولكنا كنا نراه وهو ينفجر فينا, فنلجمه بالقواعد الأخلاقية الصارمة.
وعلي الرغم من ذهاب كل منا في طريق حياة مختلف, إلا أنها كانت تفاجأ بي في أحلامها, احتل تلك الأحلام بلا نهاية, وبلا إرادة مني, وجاء ميلاد الصداقة مع مارلي ليواسيني. كانت د. مارلي هي واحدة ممن حاولن اقتحام غرفة أحزاني العلنية, تلك الأحزان التي تعبر عن نفسها في شكل أسئلة تنهال مني علي رأس كل دارس للنفس البشرية, وهي أسئلة تبدأ من كيف يولد الحب ؟ ولماذا يموت الحب ؟ وكيف يتصرف الإنسان في دوامة عواطفه التي تتحول إلي عواصف تدور به فلا يعرف لها نهاية ؟
ولم تكن وحدها من سألتها عن ذلك, كانت واحدة ضمن كثيرين. وأذكر أني سألت فضيلة الشيخ الشعراوي عن ميلاد الحب, وعن موته, وكيف ينتصر الإنسان علي الأحزان, فقام بتفسير سورة يوسف كنموذج أساسي لكل ما يخص عاطفة الحب البشرية., ففي قصة يوسف ارتجافات القلب بالحب وبالاندفاع نحو الرغبة إلي الارتواء, ثم تلجيم كل ذلك بقواعد أخلاقية صارمة نابعة من الإيمان, ثم تحمل السجن نتيجة لعدم التفريط في قيمة تقدير الإنسان لنفسه, ثم التوبة, وأخيرا امتلاك سيادة النفس والغير. وأذكر أن الشيخ الكريم قد قال لي الحب أمره من الله, فلم يعرف أحد كيف يقع في الحب, ولا لماذا ؟ ولكن من المهم ألا يتحول الحب إلي خطيئة.
تعرف مارلي_ إذن_ تفاصيل الأسئلة التي تحاصرني, بما فيها تفاصيل حياتي, وأعرف أيضا تفاصيل الأسئلة التي تحاصرها, وتفاصيل حياتها. و لم نقع حتي هذه اللحظة في تصنيف ما بيننا من علاقة في دائرة خارج الصداقة العميقة التي لا يوجد فيها طمع الحياة معا كزوج وزوجة, فهي تعلم تماما أني امتلكت ذات مرة من جنون العشق تجربة واحدة أحرقت كل قدراتي علي اقتحام الجنون من جديد, وصرت مجرد باحث عن أسباب الجنون العاطفي.
و كنت أعرف أنها مارلي الطبيبة النفسية التي توجه لي الدعوة كل أسبوع علي الأقل, لأركب الطائرة إلي نيويورك, من أجل أن أشترك معها في حلقات النقاش النفسي التي تديرها, وكل منا يجد في عقل الآخر متعة النقاش والنقار, ويعصف كل منا بالآخر غضبا ثم اتفاقا, فنبدد أحاسيسنا بالوحدة, ويلقي أي منا بأسئلته أمام الآخر, لا ليجد لها إجابة, ولكن ليستريح من عبء حمل الأسئلة في قلبه.
قالت مارلي: أعلم أنك لن تأتي إلي نيويورك حتي لو أشعلت لك أصابعي شموعا, فقد أصابك ما أصاب أهل الشرق الأوسط من رفض لأسلوب تعامل السياسة الأمريكية مع أهل المنطقة العربية. ولكن عليك أن تستقبل مجموعة الأبحاث التي أحضرتها لك, عن المؤتمر الأخير الذي عقدناه أخيرا, وهو مؤتمر حاول فيه العديد من علماء وأطباء النفس أن يقوموا بتصنيف الحب,
أضحك أنا قائلا: الدولار يرقص الآن مع عملات العالم ومنها الجنيه المصري رقصة متوحشة, يحتضن الدولار أي عملة إلي أن تختنق, ثم يتركها وهي منهكة. فضلا عن إهانات التفتيش في المطارات, وعيون الشكوك التابعة لوزارة الأمن الداخلي التي أنشئت عندكم, وصار حبل الاتهام قابلا للالتفاف حول عنق أي إنسان يدخل أرض الولايات المتحدة الأمريكية إلي أن يتثبت أنه لن يتآمر علي مزاج أجهزة الأمن الإمبراطورية التي لديكم, ولذلك لا أفكر في الحضور إلي الولايات المتحدة.
قالت مارلي: إن الأبحاث تهمك. ولذلك سأرسلها لك بالإنترنت. ويكفي أن ترسل لي رسالة قصيرة علي السكايب وستجدني معك بالصوت والصورة لنتناقش.
أقول: يغيظني أن ملامحك في الكمبيوتر تظهر لي أحيانا وعليها خطوط, لكنك حين تكونين أمامي بكل وجودك الحي فالأمر مختلف, أحب أن أجلس معك وجها لوجه وأن أشرب فنجان القهوة وأنت أمامي, لتسأليني للمرة الألف لماذا تصب قليلا من القهوة في طبق الفنجان ؟ فأجيبك لأني لا أحب القهوة ساخنة فأفقد طعمها في فمي, ولا أحبها باردة فتذكرني بالليالي التي أبقي وحيدا فريسة أسئلة لا أجد لها إجابة.
تضحك مارلي قائلة: تعلمت منك أن أحول إلي اليوم إلي بيت من رمال أشيده طوال النهار, وأقوم بهدمه ليلا, ولكني في الصباح أفعل عكس ما تفعل أنت, فأنت تحاول معرفة عدد الشعيرات السوداء التي بقيت في رأسك وسط اللون الأبيض الغامر, أما أنا فأعد عدد الشعيرات البيضاء التي تتسلل إلي رأسي.
أقول: الذي يحيرني أن تقوم جامعة عندكم بأبحاث عن الحب, ولا تعلمون ساستكم كيف يكونوا بشرا. أنت تعلمين أني أنظر إلي كثير من جامعاتكم القادرة علي البحث العلمي, وكأن الجامعة منهن هي الشمطاء التي تريد أن تجلس دول العالم أمامها وكأنهم أطفال معاقبون لتقول لهم هذا صواب وهذا خطأ.
تقول مارلي: أنت هكذا دائما تكره من يؤكد أمرا علي أساس أنه صواب مطلق أو أمر آخر علي أنه خطأ مطلق, لأن تجربة العمر قالت لك إن العلم أحيانا يتصرف كلاعب السيرك, فيقلب نفسه كالبهلوان ويقول آسف.. ما قلت أنه صواب بالأمس صار اليوم هو الخطأ
أضحك قائلا: لولا أن جدول الضرب مازال محتفظا بمصداقيته في اليابان والصين وحتي ليبيا المطحونة حاليا بالحرب, لأعلنت لك أني أتوقع أن يصدر بينا من البيت الأبيض يشكك في مصداقية جدول الضرب, وأتخيل أحيانا حروف وكلمات هذا البيان الذي سيقول إن واحدا في واحد لن تصبح نتيجتهما هي واحد, لأن الرئيس أوباما, رأي أن الأطفال الأمريكيين لا يتحملون هذا الهزار التقليدي السخيف والقديم القائل بأن واحدا عندما نضربه في رقم واحد لابد أن يساوي أكثر من ذلك, فلو أن أي طفل أمريكي قام بشراء بضعة من الأسهم من شركة مثل الشركات العملاقة التي أفلست منذ سنوات, ثم باع تلك الأسهم قبل أن تفلس الشركة, عندئذ سيجد أن واحدا زائد واحد يمكن أن تساوي مليون دولار, لكن لو باع أسهمه بعد إفلاس الشركة; فسيجد المليون زائد المليون لا يساويان أكثر من مجرد صفر, وقد حدث هذا التغيير في جدول الضرب, لأن هناك احتمال أن يكون بول برايمر الذي قتل صدام حسين حاكم العراق قد تآمر علي علم الحساب, وأن الولايات المتحدة ترفض هذا الاتهام المعلق في عيون بسطاء البشر, اتهام يقول: إن وزارة الحرب الأمريكية هي والمخابرات تتعاونان معا في مساعدة تنظيم داعش عبر التعليمات إلي تركيا وقطر, كي تخقي خطوات زعيمها كي يظل مسلسل استنزاف العالم قائما عبر تجارة الإسلحة. ومن أجل كل ذلك فقد قررت الولايات المتحدة تغيير جدول الضرب القديم, وستحاول_ فيما بعد_ أن تصدر جدول ضرب جديدا و معاصرا.
ضحكت مارلي: أعلم أنك مثل كل البشر التي تلحظ أن خريطة الكرة الأرضية صارت ممتلئة بالكراهية المولودة من عدم الثقة في النفس أو في الغير أو حتي في جدول الضرب. وقد قلت لهم آخر حلقة نقاش أن افتقاد الثقة يحول الكرة الأرضية إلي جزيرة موحشة الخوف, ودليلي علي ذلك هو ازدياد نسبة الاغتصاب في الولايات المتحدة, وفي إنجلترا وفرنسا, وشاركني هذا الرأي العديد من الذين حضورا مؤتمر دراسة العلاقة العاطفية الأخير, فالاغتصاب_ علي سبيل المثال_ لم يعد هو ذلك الحادث الذي نسمع فيه أن رجلا فقد للحظة إنسانيته فتحول إلي حيوان يلتهم فريسة لم ترغب في أن تكون مجرد وجبة ملتهمة, ولكن أصبح الاغتصاب هو الأسلوب الواضح للتعبير عن كراهية النفس, فالأجيال الجديدة لا تملك الثقة في النفس ولا في المستقبل, لذلك نجد البنت في بعض الأحيان تحترف الغواية, ثم تشكو وقوع الاغتصاب, تماما مثلما يعاني الشاب من العجز عن تخيل نفسه قائد أسرة ومشارك في بناء بيت, لذلك يندفع بحماقة الرغبة إلي ارتكاب جريمة الاغتصاب
أقول: إن كنت قد استطعت أن تعرضي هذا الرأي في مؤتمر علمي, فدعيني أرفع لك القبعة تحية واحتراما, لأنهم يدرسون تفاصيل بلادنا, ويعمقون علاقتنا بالتخلف من أجل أن يعايرونا بما وصلنا إليه, فهم من شجعوا صدام حسين علي حرب إيران أولا ثم ضرب الكويت ثانيا, ثم احتلوا العراق ثالثا, ثم أرهقوه ذلا, وهم من قاموا بتأسيس وإنشاء تنظيم القاعدة ثم داعش, وهم الذين اتصلوا بكل قوي التخلف وأيقظوها ليستفيدوا منها; وقد حدث كل ذلك علي الرغم من علمهم أن حياتهم معلقة علي ما تحت أراضينا من مواد خام. علي أية حال سأقرأ كل ما تبعثين به لي من أبحاث.
تقول مارلي: وستجد أيضا أن هناك ازديادا في نسبة شكاوي المرأة من أن الرجل لم يعد مقبلا علي الحب. وأصبح يتعامل مع صمته أكثر مما يتعامل مع القدرة علي الحلم.
.................
ما أن وقعت عيوني علي اسم الباحث برنارد مورستاين حتي تذكرت ملامحه فقد التقيت به ذات مرة في ردهات قسم علم النفس بكلية كونتكت, أذكر أنه قد قال لي هل تصر علي أنك مسلم أم أنك قد درست لماذا تكون مسلما ؟ أذكر أني قلت له سأقول لك الحقيقة, لقد قبلت فكرة الانتماء إلي الإسلام مرتين, مرة أولي حين رأيت أبي يفعل الخير ويلقيه في البحر, وحين وقفت أمام الفلسفة بعيون البحث عن إجابات للأسئلة البديهية, فلم تقدم لي الفلسفة إجابات وافية, بل قدمت حيرة عقلية ووجدانية لم أطق الحياة معها ولم أطق الإبتعاد عنها في نفس الوقت, ووجدت أن الإسلام_ مثل أي إيمان_ يفتح أمام من يصدقه باب الإطمئنان, ويترك باب الحيرة أيضا مواربا, بمعني أن أي عقيدة تعلمك كيف يجب أن تواجه أسئلتك بنفسك. أقول ذلك علي الرغم من أني أحتار في فهم التجارة الهائلة بالدين, كأكبر الوكالات التجارية التي تقف في مواجهة التجارة بالتكنولوجيا. فأنا لا أفهم ولا أقبل هذا التشتت المذهبي بين فئات المسلمين, ومثله التفتت والتشتت فيما بين المذاهب المسيحية, وأيضا المذاهب اليهودية. أنا أومن أن الأديان جوهرها واحد, وتتكامل بشكل ما, ولا أري داعيا لكل تلك التوكيلات التي تشيع الاختلاف بين الأديان, وبين أبناء الدين الواحد وتتاجر به.
أجابني: ولكني لست مثلك, فأنا قد ولدت يهوديا, ثم رأيت أنه من مصلحتي ألا أنتمي إلي فئة يخشاها الناس هنا في أمريكا ويلعنونها في سرهم. لذلك قررت الانسحاب من اليهودية, ولم أتبع أي دين حتي الآن. وقررت أن أترك لزوجتي الكاثوليكية أن تربي أبنائي بالطريقة التي تضمن لهم أن يعيشوا غير ملعونين في الولايات المتحدة وكنت أشعر أنه صادق فيما يقول, فاليهودي في الولايات المتحدة قد يكون مرهوب الجانب, وقد تتاح له فرص التفوق; لا بالذكاء المفرط غير العادي, ولكن بما يناله من رعاية من مؤسسات هائلة القدرة في الولايات المتحدة, وغالبا ما يشعر اليهودي أنه عضو في مافيا يخشاها المجتمع الأمريكي عموما, ويسيء إليها في تجمعاته الخاصة, فأنت لن تجد قوما من السود إلا ويلعنون اليهود, ولن تجد قوما من الكاثوليك إلا وينظرون بعيون الريبة لليهود. ولا يجرؤ المواطن الأمريكي العادي علي أن يعلن حقيقة مشاعره ضد اليهود, لأن المافيا الصهيونية يمكن أن تحاصره بتضييق أوجه الرزق عليه.
ويتخصص برنارد في دراسات العاطفة بين الرجل والمرأة وعلاقتها بالآداب العالمية, لا لشيء إلا لأن المزاج العام في أمريكا, وفي بقية أنحاء الكون يعتبر العلاقة بين الرجل والمرأة هي الجوهر السري لكل ما يمكن أن نطلق عليه كلمة السعادة.
وكلمة الحب_ كما نعلم جميعا_ ذات طيف متسع من القداسة والمراوغة معا, فهي الكلمة التي يوجد تحت سمائها علاقات منطلقة الفجور, وتطلق أيضا علي علاقات شفافة الثراء من فرط الصفاء النفسي ويمكن أن نسمي بها العلاقات التي ترتفع فوق سحابات الواقع وتملك أقداما تسير بها في أرض الحياة اليومية.
الحب إذن هو الكلمة الراقصة دائما كحلم غامض ومثير في كل خيال بشري.
.................
وأرسل عبر الإنترنت رسالة إلي الطبيبة النفسية مارلي كلماتها تقول لا أحد يمكنه أن يتصور آفاق ما تفعله الموسيقي الكلاسيكية في الأعماق.
ولا أحد يمكن أن يصور عجز البشرية عن الإحاطة بأوجه الحب المختلفة, فهناك حب جديد مع كل دقة قلب بين أي رجل و امرأة سعت بينهما الرغبة في الاكتمال.
وإذا أراد علم النفس أو الطب النفسي ان يصنف الحب, فعليه أن يخصص مجلدا يضم أكثر من مائة مليار نوع من العلاقات العاطفية, لأن كل إنسان يحب بطريقة تخصه وحده, وتتغير مشاعره من مرحلة وأخري من مراحل العمر بطريقة متفردة أيضا. فأنا لم أتعرف علي معني رجولتي إلا بعد أن أحببت, وأثق أن المرأة_ أي امرأة_ لا تتعرف علي آفاق أنوثتها إلا بعد أن تحب, فالحب هو الجسر الذي نسير به ومن خلاله إلي إحساسنا بنوعية الجنس الذي ننتمي إليه سواء الرجولة أو الأنوثة, ومن المؤكد أنه الجسر الوحيد الذي نؤكد به انتماءنا للجنس البشري
وجاءني صوتها عبر التليفون إلي هذا الحد أنت غير مصدق لما تقدمه أبحاث الطب النفسي وعلم النفس عن الحب ؟
فأقول لها: لماذا لا نترك تلك العاطفة تعبر عن نفسها بتوحشها ورقتها ؟ بانسيابها, وأشواكها ؟
تقول لي: لن أقول لك سوي كلمة واحدة هي أوافقك علي ما تقول, لأني أعلم أنك غير كاذب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.