تناولنا على مدى الأسابيع الماضية موضوع الأطر المؤسسية الناظمة لعمل السوق بما يحقق الانضباط فى الأسعار والسيطرة على التضخم وفى هذا السياق تأتى أهمية الحديث عن جهازى حماية المستهلك، وكذلك منع الممارسات الاحتكارية وحماية المنافسة, باعتبارهما من الأدوات الأساسية الداعمة للسيطرة على الأسعار. العملية. فعلى الرغم من ان آلية السوق وجهاز الثمن هما من اكفأ الآليات المحققة للنمو الاقتصادي, فإن اللجوء إليهما فى كل الأمور يعتبر من قبيل الخطأ القاتل. حيث أثبتت الدراسات ان الأسواق تعانى من اختلالات عديدة أكد عليها الكثيرون بشكل واضح صريح يعود بعضها الى الأوضاع الاحتكارية، والبعض الآخر ناجم عن الاعتبارات قصيرة الاجل فى العمل، والتى تجعل السوق اقل قدرة على المنافسة او اقل كفاءة. من هذا المنطلق فإن مواجهة مشكلات الاحتكار او تشوهات الأسواق لصيقة الصلة بالنظام الرأسمالى والتى تنبع من طبيعته, تحتاج الى ارادة سياسية فاعلة تعمل على تفعيل دور الدولة لتعويض اوجه النقص فى هذا النظام. وبالتالى تنشأ الحاجة الى التدخل الحكومى الوعى والذكى لإنقاذ الاندفاع نحو التراكم الرأسمالى من المعاناة من نتائجه الخاصة به وضبط عملية السوق بما يجعله قادرا على العمل بكفاءة وفعالية وتوفر الظروف التى تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى اطار حقيقى غير مصطنع, نابع من الإرادة الحقيقية للمتعاملين بالأسواق, مع ضمان التخطيط الاستثمارى السليم عن طريق توفير البيانات والمعلومات الأساسية عن القطاعات الاقتصادية بالمجتمع, وذلك بالشكل الذى يمكن الجميع من إجراء دراسات الجدوى السليمة والصحيحة. وكذلك توفير المناخ الاستثمارى الجيد. وبمعنى آخر فانه بقدر مالا يمكن إهمال آلية السوق وجهاز الثمن، الا انه لايمكن ان يستمر ذلك دون التدخل الذكى والمنظم من جانب الحكومة. اذ إن نظام السوق له مقومات أساسية ورئيسية لابد من استيفائها حتى يحقق الغرض منه، وفى مقدمة هذه المقومات وضع المؤسسات المناسبة لتحقيق انضباط السوق، والأطر التى تحمى حقوق كل الأطراف, ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود اجهزة رقابية قوية تستطيع مواجهة الأفعال الضارة بالسوق والتى تعوق قدرة الاطراف على اتخاذ قراراتهم وفقا للاعتبارات الاقتصادية وحدها وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن الأفعال التى تهدف إلى الأضرار بالمستهلك او الكيانات العاملة بالسوق. فيما اصطلح على تسميته بالوظيفة التنظيمية للدولة والتى تشمل منع الممارسات الاحتكارية والسيطرة عليها الى جانب وضع وتنفيذ المعايير فى العديد من المجالات. وينبغى عدم النظر لهذه الرقابة على انها تدخل فى عمل الأسواق بالمعنى الذى يفقدها حرية المبادرة، وإنما الرقابة هدفها مواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق. خاصة وان المستهلك المصرى يمثل أضعف حلقات التعامل، وبالتالى يصبح من الضرورى العمل على حمايته، وأساس ذلك أن المستهلك يمثل محور العملية الانتاجية وهدفها, ولذلك فإن حمايته وتنظيم المنافسة من أهم أهداف الرقابة على الأسواق. من هنا تأتى أهمية جهاز حماية المستهلك ليس فقط لدوره فى تنظيم السوق والحد من الأفعال الضارة او المضللة للمستهلك, الا انه عليه أيضا العمل على نشر ثقافة حقوق المستهلك وتوعية المواطنين بحقوقهم من خلال ترسيخ مبدأ الإفصاح عن المعلومات والبيانات الخاصة بالسلع وإلمامه بالمواصفات وحالة الأسواق ومستويات الأسعار وتفعيل الدور الرقابى الرسمى والشعبى من اجل حماية المواطن المصرى من أى أضرار قد يتعرض لها وبما يحقق مبدأ سيادة المستهلك, وعلى الرغم من صدور القانون رقم 67 لسنة 2006 لحماية المستهلك,متضمنا العديد من هذه المبادئ فى مواده المختلفة, فإنه لم ينجح فى تطبيقها تطبيقا كاملا حتى الآن فالسلع المغشوشة ومجهولة المصدر تملأ الأسواق وخدمة مابعد البيع تكاد تكون كالعنقاء والخل الوفى لاوجود لها أصلا, واصبح الشعار السائد بالأسواق البضاعة المباعة لاترد ولاتستبدل وذلك للعديد من الأسباب منها ضعف العقوبات التى جاء بها القانون المذكور وعدم قدرة الجهاز على تنفيذها مما يجعلها والعدم سواء, وفتح الباب للتصالح فى هذه الجرائم مقابل أداء مبلغ زهيد. ناهيك عن غابة التشريعات الأخرى المنظمة للجوانب المختلفة لعلاقة المنتج والمستهلك. ويرتبط بهذا الموضوع مشكلة الاحتكارات السائدة بالأسواق, خاصة بعد ان أصبحت سمة أساسية من سمات السوق المصرية ولم تصبح قاصرة على قطاع محدد بل امتدت بآثارها لتشمل معظم قطاعات الاقتصاد, ومن المفارقات الغريبة ان هذه الاحتكارات انتشرت بعد صدور القانون رقم 3 لسنة 2005 بشأن حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية. من هذا المنطلق فقد احسن القائمون على دستور 2014 صنعا حين نصوا صراحة على أهمية منع الممارسات الاحتكارية وضبط آليات السوق والتوازن بين مصالح الأطراف المختلفة . وان كنا نرى ان الاحتكار عبارة عن مجموعة معينة تقوم بالتحكم فى الأسعار او الاسواق وتعمل على إقصاء المنافسين من السوق , وهذا لا يمس عدد المنشآت او حجمها فى السوق. وبمعنى آخر فان الأمر يجب ان يكون ضد الممارسات الاحتكارية الضارة بالمنافسة واستخدام الوسائل غير المشروعة فى صنعها، وليس حجم الملكية أو الحيازة وهو ما يتطلب المراقبة الدقيقة لممارسات المنشآت ذات الوضع الاحتكاري. وهنا يصبح دور الحكومات هو مواجهة السلوك الاحتكارى وليس التحكم فى عدد المنشات او حجمها وفى هذا السياق يشير القانون الحالى الى ان الاحتكار يتحدد فى كون المنشاة ذات تأثير فعال على السوق المعنية ، وذلك إذا تعدت حصتها فيه 25% وكان لها القدرة من خلال أفعالها المنفردة على تحديد أسعار او تقييد إنتاج السلع والخدمات المعنية ، وفى جميع الأحوال لا يعتبر الشخص او المنشاة ذا تأثير فعال فى سوق معينة إذا كانت حصته فيها تقل عن ذلك. وهنا يصبح التساؤل هل يمكن التقييد بنسبة معينة للبدء فى متابعة سلوك المنشأة ام من الأفضل تركها مفتوحة بحيث تشمل السلوك الضار بالمنافسة آى كانت نسبة المنشاة من السوق؟ وفى هذا السياق أيضا نلحظ ان القانون قد أغفل تماما التعامل مع العوائق المحلية التى قد تحول دون تحقيق المنافسة فى السوق اذ قد تمنع اللوائح والقوانين القائمة الشركات من الدخول للأسواق إما من خلال قيود مباشرة على تأسيس شركات جديدة او من خلال فرض شروط مبالغ فيها للدخول للسوق. لأمر الذى يتطلب إزالة كافة العوائق التى تحول دون الدخول او الخروج من الأسواق. ومن الأمور المهمة فى القانون أيضا الجهاز الخاص بتنظيم هذه العملية ، وهو أهم آلية لانفاذ القانون وعليه يقع العبء الرئيسى فى إنجاح هذه العملية وبالتالى يصبح من الضرورى التوقف كثيرا عند هذا الجهاز من حيث تشكيله وسلطاته ..الخ من الأمور المتعلقة بعمله وهنا نتساءل عن مدى قدرته على إحكام السيطرة على الأمور بالأسواق ومدى إمكانية خضوعه لسيطرة أو سلطات المنشأة المحتكرة؟ وكيف يمكن تلافى اثر الضغوط السياسية التى يتعرض لها؟ وهو ما يطرح بدوره العديد من التساؤلات حول المسئولية السياسية للجهاز، وكذلك التبعية الإدارية . هذه هى بعض التساؤلات والنقاط التى نرى من الضرورى التحاور حولها للوقوف على افضل السبل لتحقيق الكفاءة الاقتصادية للمجتمع والحيلولة دون الممارسات الضارة بالمجتمع. كما يجب ان تأتى الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها من الواقع المعيش وليس من الأبحاث النظرية البحتة والتى قد تختلف كثيرا عن الواقع الاقتصادى والاجتماعى المعيش، مما يسهم فى تعزيز عملية التنمية والنمو الاقتصادى بالبلاد ويساعد على كفاءة عمل الأسواق ويحد من الضغوط التضخمية. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي