آخر تحديث لسعر الذهب الآن في الأسواق ومحال الصاغة    قبل تفعيله الثلاثاء المقبل.. ننشر المستندات المطلوبة للتصالح على مخالفات البناء    «العمل»: التواصل مع المصريين بالخارج أهم ملفات الوزارة في «الجمهورية الجديدة»    «القاهرة الإخبارية»: جيش الاحتلال يطالب سكان شرق رفح الفلسطينية بمغادرة المنطقة    الرئيس الصيني شي يلتقي ماكرون وفون دير لاين في باريس    تحذير: احتمالية حدوث زلازل قوية في الأيام المقبلة    مفاجأة بشأن مستقبل ثنائي الأهلي    «الأرصاد» تكشف تفاصيل حالة الطقس في شم النسيم    في يوم شم النسيم.. رفع درجة الاستعداد في مستشفيات شمال سيناء    فيلم السرب يواصل تصدر شباك التذاكر.. حقق 4 ملايين جنيه في 24 ساعة    تحذير من خطورة تناول الأسماك المملحة ودعوة لاتباع الاحتياطات الصحية    محمد صلاح يُحمل جوزيه جوميز نتيجة خسارة الزمالك أمام سموحة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 6 مايو    تزامنا مع بدء الإخلاء.. تحذير من جيش الاحتلال إلى الفلسطينيين في رفح    موعد وقفة عرفات 1445 ه وعيد الأضحى 2024 وعدد أيام الإجازة في مصر    عاجل.. أوكرانيا تعلن تدمير 12 مسيرة روسية    وسيم السيسي يعلق علي موجة الانتقادات التي تعرض لها "زاهي حواس".. قصة انشقاق البحر لسيدنا موسى "غير صحيحة"    نيرمين رشاد ل«بين السطور»: ابنة مجدي يعقوب كان لها دور كبير في خروج مذكرات والدها للنور    تراجع سعر الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الإثنين 6 مايو 2024    أخبار التكنولوجيا| أفضل موبايل سامسونج للفئة المتوسطة بسعر مناسب وإمكانيات هتبهرك تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo وOnePlus Nord CE 4 Lite    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    سعر التذكرة 20 جنيها.. إقبال كبير على الحديقة الدولية في شم النسيم    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    موعد مباراة نابولي ضد أودينيزي اليوم الإثنين 6-5-2024 والقنوات الناقلة    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية الإسلام فى فرنسا: التناقض بين الأطر الرسمية وغير الرسمية
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 12 - 2015

شهدت الساحة الفرنسية ثلاثة أطراف فاعلة على صعيد تنظيم الاسلام السنى غير الرسمى منذ الستينيات وحتى الوقت الراهن، أولها دول المنبع الرئيسية للجاليات المهاجرة وهى تركيا والجزائر والمغرب فى ضوء أن 80% من مسلمى فرنسا البالغ عددهم حوالى 5 ملايين نسمة ذوو أصول مغاربية، فضلاً عما يقرب من نصف مليون تركى تتولى الحكومة التركية إدارة شئونهم. أما الطرف الثانى المؤثرفهو الحركات الدينية المتعددة الجنسية مثل جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى المنظمات الإسلامية العابرة للدول مثل جماعة التبليغ والدعوة والروابط المناظرة لها. أما آخر الأطراف فى معادلة الإسلام غير الرسمى فى فرنسا فيتمثل فى المساجد والجمعيات المعنية بالشباب فى الضواحى وهى جمعيات يتركز معظم نشاطها على المجالات الثقافية والاجتماعية.
كانت بداية الهجرة العربية الاسلامية إلى فرنسا منذ بداية القرن العشرين منحصرة فى بضعة آلاف من الجزائريين ولكن الهجرة المكثفة بدأت فى عقدى الخمسينيات والستينيات عقب استقلال دول المغرب العربى فيما اطلق عليها الهجرة الاقتصادية. وكان الإسلام يمثل آنذاك بالنسبة لفرنسا ظاهرة ثقافية يجب احتواؤها بيروقراطياً من خلال ترك مهمة تأطير الجاليات المهاجرة لدول المنبع الرئيسية وهى الجزائر والمغرب وتركيا (باعتبارها منبع الهجرة الرئيسى) التى كانت توفد مدرسيها وأئمتها للحفاظ على هوية جالياتها. كما كان هدف تلك دول الرئيسية السيطرة على الفضاء الدينى الخارجى المتمثل فى الجاليات وتأميم خطابها السياسى بما يتماشى مع الخط العام لأنظمتها السياسية.
وقد تمكنت تلك الدول عبر صيغة لا مركزية بالاتفاق مع الحكومة الفرنسية، من إنشاء مجموعة من الجمعيات الإسلامية تتولى إدارة المساجد التى كان أئمتها يعينون مباشرة من جانب تلك الدول، وهو ما أدى إلى تحول المسجد وكذلك الجمعيات الإسلامية، إلى امتداد للفضاء المحلى وهو ما يفسر اشكالية التمايز الاثنى بين مكونات الاسلام غير الرسمى فى فرنسا.
ظلت الأمور تسير على هذا النهج فى إطار ما ارتأته الدولة الفرنسية بأنه «إسلام هادئ» ولا سيما بين أبناء الجيل الأول من المهاجرين الذين كان ينظر لهم باعتبارهم مهاجرين مؤقتين سيعودون إلى بلدانهم فى توقيت لاحق. إلا أن حقبة الثمانينيات شهدت نقلة نوعية جديدة تمثلت فى صعود الإسلام السياسى فى دول المغرب العربى والشرق الأوسط، بالتوازى مع بدء ظهور ابناء الجيلين الثانى والثالث (على خلفية قانون لم الشمل العائلى فى 1974 والذى سمح للمهاجرين باستقبال عائلاتهم من دولهم الأصلية) على الساحة الفرنسية. وهو الأمر الذى مثل نقطة تحول فى معادلة الإسلام فى فرنسا الذى انتقل من مرحلة الهدوء إلى مرحلة الصراع منذ بداية التسعينيات.
أما الطرف الفاعل الثانى على صعيد الإسلام غير الرسمى فى فرنسا، فيتمثل فى الحركات الدينية المتعددة الجنسية. فى هذا السياق، تواكب صعود التيار الأصولى فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا-بالتوازى مع ظهور الجيل الثالث من المهاجرين- مع توافد أعداد متزايدة من المعارضين الإسلاميين من الشرق الأوسط بشكل عام والمغرب العربى بشكل خاص للإقامة فى فرنسا ولاسيما عناصر جماعة الإخوان المسلمين وكذلك كوادر الجبهة الاسلامية للإنقاذ بالجزائر وحركة النهضة الاسلامية فى تونس، وبعض كوادر جماعة العدل والاحسان المغربية. وقد استخدم هؤلاء الاسلاميون فرنسا كمنبر مضاد لأنظمتهم فى وقت قامت فيه فرنسا فى ذات الوقت باستخدامهم كورقة ضغط على تلك الأنظمة. وقد قام هؤلاء الإسلاميون بالانخراط داخل القاعدة الاجتماعية لمسلمى أوروبا بتوظيف الآليات الديمقراطية المتاحة والتى مكنتهم من إنشاء جمعيات اسلامية ومساجد بهدف الحشد لمشروعهم الأيديولوجى داخل قطاعات من المهاجرين ولا سيما فئة الشباب الذين ولدوا فى فرنسا.
وتأتى جماعة الإخوان المسلمين بمختلف فروعها فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى مقدمة تلك الحركات الدينية المتعددة الجنسيات التى قامت بعملية re-localisation اكتسبت بمقتضاها الصبغة الأوروبية-الفرنسية، بإنشاء اتحاد المنظمات الاسلامية فى فرنسا عام 1983 تمكن من السيطرة على عدد كبير من الجمعيات والمساجد بما جعله طرفاً رئيسياً فى المجلس الفرنسى للديانة الإسلامية الذى أنشأه وزير الداخلية ساركوزى عام 2003. كما تضم الحركات الدينية المتعددة الجنسية روافد الإسلام السياسى التركى ممثلة فى عدد من التنظيمات أهمها الاتحاد التركى-الاسلامى للشريعة وكذلك الاتحاد الاسلامى بفرنسا واتحاد الجمعيات الإسلامية (حركة كابلان) وهى منظمات تمثل واجهة للأصولية الإسلامية التركية.
يتقاطع مع تلك الحركات الدينية عدد آخر من الروابط والمنظمات الإسلامية ذات الطابع الدولى فى مقدمتها حركة التبليغ والدعوة التى تأسس فرعها الفرنسى فى باريس عام 1968 من خلال دعاة باكستانيين. هذا بالإضافة إلى رابطة العالم الاسلامى التى افتتحت فرعاً لها بباريس عام 1977، مما مكنها من لعب دور كبير على صعيد تمويل الجمعيات الإسلامية وبناء المساجد وتوجيه منح للفرنسيين من أبناء الجيلين الثانى والثالث لدراسة الشريعة بالجامعات الاسلامية، وهو الأمر الذى أسهم فى أسلمة القواعد الاجتماعية من الشباب المسلم فى فرنسا. هذا بالإضافة إلى الجامعة الاسلامية العالمية التى تسيطر على المجلس العالمى الأعلى للمساجد والمؤتمر الثقافى الاسلامى العالمى وتقوم بنشاط مماثل لرابطة العالم الإسلامى.
على جانب آخر، يأتى الطرف الثالث فى معادلة الإسلام فى فرنسا متمثلاً فى الجمعيات المعنية بمسلمى فرنسا والتى لاقت رواجاً فى نهاية الثمانينيات ويتركز معظمها فى الضواحى التى يقطنها مسلمو فرنسا والتى بلغت حوالى 3 آلاف جمعية فى بداية الألفية. وهى جمعيات لا يتسم نشاطها بالطابع الدينى البحت، حيث يتركز دورها على الجوانب الثقافية والاجتماعية والتعليمية وتستهدف جمهوراً محدداً هو شباب مسلمى فرنسا، فضلاً عن تركيزها على مجموعات إثنية بعينها مثل الأتراك والجزائريين والمغاربة على سبيل المثال. وقد تمكنت تلك الجمعيات التى تتقاطع فى نشاطها أحياناً مع بعض الجمعيات ذات الأهداف الدينية من سحب البساط من تحت المساجد التى طالما لعبت دوراً تقليدياً فى التأثير على الجاليات الإسلامية المهاجرة وإن كان تأثيرها قد ظل منحصراً فى أبناء الجيل الأول من المهاجرين.
تواجه هذه الجمعيات التى تعمل على اسس اجتماعية فى معظمها ضغطاً مزدوجاً: الأول من قبل السلطات الفرنسية التى طالما وجهت لها اتهامات بعلاقات مع حركات اصولية فى منطقة شمال أفريقيا بسبب انتماء عدد كبير من المنتسبين إليها لتلك المنطقة الجغرافية، فى حين يتهم قطاع عريض من شباب الضواحى الفرنسية تلك الجمعيات بالانفصال عن واقعه واهتماماته، وهو ما يمكن تفسيره بأنه ناتج عن عدم قدرتها على أداء دورها بسبب نقص التمويل بعكس الجمعيات الإسلامية التى تتلقى تمويلاً كبيراً من جانب العديد من الحركات الأصولية فى العالم العربى.
جاء الرد الفرنسى إزاء أحداث 11 سبتمبر 2001 وكذلك فى مواجهة صعود الإسلام السياسى فى المنطقة العربية وظهور أبناء الجيل الثالث من المهاجرين متمثلاً فى إنشاء المجلس الفرنسى للديانة الإسلامية عام 2003 الذى ركز بالأساس على ايجاد محفل تمثيلى لمسلمى فرنسا قادر على التفاهم مع الحكومة أكثر من تركيزه على الجانب الجوهرى لقضية الإسلام فى فرنساوحل معضلة اندماج المسلمين فى المجتمع الفرنسى. وقد جاء هذا المجلس مكوناً من مجموعة من الاتحادات الاسلامية التى تسيطر على عدد من الجمعيات التى تتولى ادارة عدد كبير من المساجد المنتشرة فى فرنسا حيث يتم انتخاب الأعضاء بناء على الوزن النسبى لتلك الاتحادات والمستمد من مساحة المساجد التابعة لها. وقد أسفر ذلك عن سيطرة اتحاد المنظمات الاسلامية بفرنسا- أحد أذرع الاخوان المسلمين فى أوروبا - على اول تشكيل للمجلس عام 2003 وذلك فى مواجهة الاتحاد الوطنى لمسلمى فرنسا ذى الاتجاهات المواتية للحكومة المغربية وكذلك مسجد باريس القريب من النظام الجزائرى، بالإضافة إلى اتحاد المسلمين فى فرنسا الذى يمثل الاسلام التركى بتوجهاته المختلفة.
ارتباطاً بذلك، تمثل الخطأ الذى ارتكبه ساركوزى وزير الداخلية آنذاك فى أنه مضى بسياسة فرنسا نحو ايجاد توازن بين المؤسسات الرسمية المغاربية للاسلام فى فرنسا مع اهمال المنظمات الاسلامية الأخرى التى لا تدير عدداً كبيرا من المساجد ولكنها تتمتع بتأثير على شباب الضواحى الذى يعانى التهميش دون أن يكون لتلك المنظمات اصوات داخل المجلس مما جعله منعزلاً عما يجرى فى الضواحى. وقد كان من نتيجة ذلك اندلاع انتفاضة الضواحى فى فرنسا عام 2005 بعد انشاء المجلس بعامين- ولم يتمكن من لعب أى دور لتسوية الأزمة لافتقاده التأثير على القاعدة الاجتماعية العريضة للشباب المسلم الفرنسى.
كما أن المجلس فى ظل طبيعة تكوينه التى يغلب عليها الصبغة الإدارية - لم يسهم بشكل فعال فى احتواء التوتر بين الدولة الفرنسية والجاليات الإسلامية إذ لم يتمكن- فى ضوء الحسابات السياسية التى ينتهجها أعضاؤه مع الدولة الفرنسية ومع دول المنبع فى ذات الوقت- من التطرق للقضايا الحساسة التى تمثل عصب المشكلة بين فرنسا والإسلام ألا وهى إيجاد صياغة توفيقية بين الإسلام والعلمانية التى تتبعها الجمهورية الفرنسية وفقاً لقانون العلمانية لعام 1905 الذى تبنى حياداً تجاه الأديان الموجودة وقت صدوره (الكاثوليكية-البروتوستانتية- اليهودية)، وقام بتحويل الدين من مرجعية روحية عامة إلى مرجعية روحية فردية، بما ترتب على ذلك من امتناع الدولة عن تمويل الديانات بشكل مباشر. ومن هنا تأتى المشكلة الرئيسية لمسلمى فرنسا مع القانون الصادر عام 1905 من زاوية عدم وجود مسلمين أو دور عبادة وقت صدوره ، بالإضافة إلى أن الاسلام دين مرئى يعتمد على المرجعية الروحية الجماعية وهو ما يتناقض مع القانون المشار إليه.
أدى فشل الحركات الاجتماعية والتنظيمات ذات الطابع الدينى فى احتواء القاعدة الاجتماعية لشباب الجيلين الثانى والثالث لمسلمى فرنسانتيجة انشغالها بالحسابات السياسية الضيقة- إلى افساح المجال أمام صعود الاسلام المتشدد بما فيه تيار السلفية الجهادية حيث نجح الأخير فى استقطاب قطاعات من الشباب المسلم فى اتجاه القطيعة مع المجتمع الفرنسى من خلال الترويج لفكرة الفردية individualism كبديل عن طرح مشروع لتوحيد المسلمين فى فرنسا. وقد أدى الفشل المؤسسى للاسلام فى فرنسا (بشقيه الرسمى وغير الرسمى كما سنبينه لاحقاً) بالتوازى مع صعود السلفية فى الضواحى إلى إحداث فراغ سياسى وأيديولوجى بدأ يسيطر على قطاعات من شباب الضواحى المهمشة تمكنت منظمات ارهابية خارجية من توظيفه لخدمة مصالحها. وهو ما يفسر اتجاها لبعض الشباب المسلم الفرنسى لانتهاج العنف والإرهاب كوسيلة تعبير عن الهوية على خلفية الظروف الاجتماعية المعقدة والتمييز الاجتماعى والموقف غير المواتى للاسلام داخل قطاعات عديدة فى المجتمع الفرنسى كما يظهر فى استطلاعات الرأى الفرنسية بشكل شبه دائم.
فى هذا السياق، وعلى الرغم من أن الأحداث الإرهابية فى فرنسا حتى عقد الثمانينات كانت انعكاساًمباشراًلأحداث الشرق الأوسط بوجه عام باعتبارها المنطقة التى ينتمى إليها الغالبية العظمى من مسلمى فرنسا (تفجيرات بداية الثمانينيات ذات الارتباط بالأزمة اللبنانية)، إلا أن إرهاب عقد التسعينيات كان مرتبطاً بالداخل الفرنسى بداية من تفجيرات مترو باريس 1996 التى عرفت بظاهرة خالد قلقال أحد شباب الضواحى الذى قام بتخطيط وتنفيذ تلك العمليات على خلفية خطاب سياسى مرتبط ظاهرياً بأحداث الشرق الأوسط إلا أنه كان فى جوهره احتجاجاً على التمييز الذى يتعرض له مسلمو فرنسا على صعيد التوظيف وفرص الحصول على المسكن. ويجب التنويه فى هذا الصدد، إلى أن قطاعاًلا بأس به من أبناء الجيل الثالث من المهاجرين غير ملتزم بممارسة الشعائر الدينية بشكل كامل وهو امر متسق مع قطاعات كبيرة من المجتمع الفرنسى على اختلاف دياناتها. إذ يلاحظ ارتباط هذه الفئة من مسلمى فرنسا بالإسلام ثقافياً على سبيل التعبير عن الهوية مثل الحرص على الاحتفال بالأعياد والتردد الموسمى على المساجد وما إلى ذلك من مظاهر التمسك الثقافى بالإسلام وهو ما يطلق عليه بعض الباحثين الفرنسيين «المسلمون العلمانيون». وتجدر الإشارة فى سياق التدليل،إلى انتفاضة الضواحى الفرنسية عام 2005 التى لم يكن وراءها أيه بواعث دينية أو اصولية وانما كانت فى جوهرها احتجاجاً على التمييز الاجتماعى ضد المسلمين من قبل الدولة الفرنسية. وقد تم انهاء تلك الانتفاضة عبر تسوية مع الدولة الفرنسية بعيداً عن تدخل المجلس الفرنسى للديانة الإسلامية أو أية وساطات من جانب الجمعيات أو الاتحادات الإسلامية فى فرنسا، وهو ما يؤشر إلى أن الحركات الاحتجاجية لدى مسلمى فرنسا لا يسيطر عليها نمط التطرف الدينى فى كل الأحيان.
سيكون من المهم بالنسبة لفرنسا -ومعها بدرجة أقل دول الاتحاد الأوروبى ذات الكثافة الاسلامية فى المهاجرين- تقبل واقع أن اضفاء طابع مؤسسى على الاسلام كما حدث فى المجلس الفرنسى للديانة الاسلامية لن يحول دون وقوع أحداث إرهابية وهو ما يحتم إعادة تعريف مهام المجلس من خلال قصره على كونه مجلساً يعنى بإدارة الدين الاسلامى كدور العبادة والجمعيات والزكاة وتكوين الأئمة وليس باعتباره مجلساً تمثيلياً لمسلمى فرنسا. مما يحتم على الدولة الفرنسية العمل على البحث عن آليات واقعية مع الممثلين الحقيقيين للاسلام فى فرنسا وتحديداً فى أوساط الشباب المسلم المولود فى فرنسا من خلال ايجاد صيغة قبول من جانب المجتمع الفرنسى بمشاركتهم فى الأحزاب السياسية الفرنسية الرئيسية، والتعامل مع هؤلاء الشباب باعتبارهم جزءًا من النسيج الفرنسى عبر فتح آفاق الحراك الاجتماعى والسياسى بعيداً عن أية ارتباطات أو ولاءات إثنية كإشارة واضحة لقبول المجتمع الفرنسى لهم.
أخيراً يمكن القول إن التناقض بين النموذجين الرسمى وغير الرسمى قد أحدث شللاً فكرياً وصراعات ثقافية بين مسلمى فرنسا، إذ أنه وإن كانت الصيغة الرسمية قد نجحت إلى حد ما فى السيطرة على الخطاب الرسمى للمهاجرين ظاهرياً عبر بيانات الإدانة التى يصدرها المجلس والاتحادات والجمعيات الداخلة فى نطاق تشكيله لشجب أحداث العنف والإرهاب، إلا أنها فشلت فى احتواء الجمعيات والمؤسسات الممثلة للإسلام غير الرسمى مثل المساجد والجمعيات الإسلامية المستقلة والتى تعد القاعدة الهيكلية للإسلام فى فرنسا. إذ ركزت الدولة الفرنسية فى هذا الإطار على إيجاد ممثلين رسميين ذوى مواقف مواتية لها دون الالتفات إلى المؤسسات والجمعيات غير الداخلة تحت عباءة الاتحادات الاسلامية المكونة للمجلس الفرنسى للديانة الإسلامية والتى تقوم بدور مؤثر فى الحياة اليومية لقطاع كبير من الشباب المسلم الفرنسى.
دكتوراة فى العلاقات الدولية
من جامعة السوربون باريس
لمزيد من مقالات د. طارق دحروج


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.