عندما تطالع أي عمل أدبي, إياك أن تستهين بالتفاصيل الثانوية, أو قل التي تبدو كذلك; ذلك لأن الأديب الحق يملك من القدرة علي سبر أغوار النفس البشرية, أو علي أضعف تقدير, ملامسة جوهرها بقدر, بما لا يتأتي للأشخاص العاديين فعله; ويملك القدرة علي استشراف واقع تفرضه طبيعة النفس البشرية, لم يكن المرء ليتخيله لولا أن يمر به فعليا, واقع يستحيل أحيانا تجميع خيوطه و ملابساته إلا من خلال عمل أدبي! ولكن, تري النهاية التي يرتضيها الأديب لروايته هي آخر نهاية يمكن أن تصل إليها الأحداث بالفعل; أم أن هناك نهايات أخري محتملة يجوز أن تتعدي هذه النهاية؟ وأنظر اليوم لما يدور من حولي, فتستوقف ذاكرتي رواية شهيرة للكاتب الكبير ثروت أباظة تحولت إلي فيلم سينمائي ذائع الصيت بعنوان( شيء من الخوف), للعملاق محمود مرسي( عتريس), إذ أري أمام عيني شخصيتين ثانويتين بعينهما لم يكن لهما نصيب كبير من البطولة, إلا أنني أري فيهما علامتين فارقتين في سياق هذا العمل برمته ربما لم ينتبه الكثيرون إليهما, وهما: شخصية الفنان أحمد توفيق, وشخصية الفنان صلاح نظمي! فبالرغم من أن الاثنين كانا بطول الرواية من أهم أعوان( عتريس); هذا الطاغية المستبد دائما أبدا الذي كمم الأفواه وحرق الحرث والنسل( كما صورته الرواية). إلا أنه كان للاثنين موقفان متباينان حين أمطرت سماء البلدة نذر ثورة شعبية جارفة استهدفت التخلص من عتريس إلي الأبد و(تغيير) هذا الواقع الذي يعيشونه: أما عن الشخصية الأولي, فهي شخصية( رشدي) التي كانت من نصيب الفنان أحمد توفيق; حين راوده( حلم الزعامة), فقرر الانشقاق قبل اندلاع ثورة البلد, مستكثرا علي( عتريس) ما هو فيه من قوة وسطوة, فإذا برشدي يرتدي هو الآخر ثوب القوة( عنوة),يطالب الناس بالامتثال لأوامره هو, مثلما يمتثلون إلي( عتريس)!! ولأن ثوب القيادة لم يكن ليليق به,لم يكتف الناس بعدم الامتثال إليه فحسب, وإنما سخروا منه, بل وتطاولوا عليه ضربا بالأكف والنعال; فكلما لوح بقوته وبأسه, ضحك الناس منه واستهزأوا بما يقول... وهكذا إلي أن أصيب الرجل بلوثة عقلية راح علي أثرها يهيم بالبلدة مرتديا جلبابا قصيرا متسخا, يقسم للناس جهد إيمانه بأنه( عتريس), بل و زادهم بأنه ليس( عتريس) واحدا فحسب, وإنما(30 عتريس) مجتمعين... والناس تضحك و تنهال عليه صفعا وركلا, ويطارده الصبية في الطرقات باعتباره رجلا فقد عقله!! أما عن الشخصية الثانية, فكانت من نصيب الفنان صلاح نظمي, أو إسماعيل العصفوري في الرواية, وهو الذي ستكتشف إذا أنت استدعيت الأحداث من ذاكرتك أنه لعب أقذر دور قاطبة; فعندما اشتدت الثورة وبلغت أوجها, واقترب الناس من منزل( عتريس) يحملون مشاعل الانتقام إيذانا بانعقاد نيتهم الجماعية علي إحراق رمز الاستبداد والطغيان, كان أول من اندفع نحو(عتريس) هو العصفوري, لا لكي ينقذه, وإنما لكي يحكم إغلاق الأبواب عليه و(يهرب), فيتركه يتلقي وابل المشاعل عبر النوافذ( المحصنة بالحديد), شعلة تلو الأخري, إلي أن أجهزت النيران عليه, فاحترق( عتريس) إلي الأبد!! نحن إذن أمام نماذج بشرية ثلاثة تفرزها المجتمعات البشرية عموما تطرق الروائي ثروت أباظة إليها بحرفية: نموذج بشري يراوده( التغيير), و نموذج بشري تراوده( الزعامة), و نموذج بشري تراوده( الخيانة)!! ولأن الأقدار هي أفضل أديب, فإنني أدعوك ألا تكتفي بالنهاية التي سطرها ثروت أباظة لأحداث روايته, وإنما أدعوك إلي أن تنطلق لإعمال خيالك المستند إلي الواقع الذي تعيشه معي في هذه اللحظة الفارقة من عمرنا, محاولا استكمال ما يمكن أن يكون عليه حال( نفس البلدة) بعد احتراق( عتريس) الذي أسدل الروائي ستار روايته بالقضاء عليه: فتخيل مثلا لو أن طالبي( التغيير) هؤلاء ظلوا وقوفا عند أبواب قصر عتريس لا يبرحونه أبدا, تاركين النسل والحرث, محتشدين حيث تجمعوا; كلما انطفأت مشاعلهم أوقدوها من بعد أن أعجبتهم( اللعبة), ثم كلما اعترض معترض علي ما يفعلونه لوحوا بإحراق هذا المعترض أيضا, بل وبإحراق البلدة بأسرها!! فأي تغيير تراهم كانوا ينشدون وهم( الطغاة) علي درب عتريس أيضا؟ وتخيل لو أن طائفة من هؤلاء أتت بشخصية رشدي(الفنان أحمد توفيق) مثلا ليكون زعيما للبلدة فعلا بعد زوال عرش عتريس; مبررين ذلك بأن رشدي هذا كان بطلا حقيقيا حين قرر أن ينشق علي عتريس في أوج مجده!! فأي معتوه هذا الذي سيوافقهم علي ذلك؟ ثم تخيل لو أن إسماعيل العصفوري( الفنان صلاح نظمي) بدل جلده وانخرط في صفوف الناس مدعيا البطولة!! فمن ذا الذي كان بإمكانه أن يصدقه ؟ تخيل وتخيل وتخيل... والاحتمالات علي أرض الواقع أبدا لا تنتهي!! .. وألقي برأسي المتعبة,فأتذكر مشهد( هرولة) شخصيات بعينها إلي الميدان بعد اشتداد أولي مشاعل الثورة, وليظل السؤال: نستطيع جميعا أن نعرف من هو الذي ارتضينا اليوم أن نلبسه شخصية( عتريس), ولكن تري كم رشدي بيننا اليوم وكم إسماعيل العصفوري؟ المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم