حدث ما كان متوقعا بعد هجمات باريس..ليس فقط من تجدد الخوف من ويلات الإرهاب، بل ألقت المأساة باللاجئين فى أوروبا والأمريكيتين على مفترق طرق، فتزايدت الدعوات فى الدول الغربية المطالبة بالحد من تدفق اللاجئين، بل ولطردهم، باعتبارهم سببا فى دخول الإرهاب إلى هذه الدول، لتتضاعف بذلك معاناة هؤلاء اللاجئين الذين خرجوا من بلادهم هربًا من الإرهاب أصلا. فهل ينجح اتفاق الاتحاد الأوروبى الأخير مع تركيا حقا فى الحد من تزايد حجم هذه المأساة؟ أم ينجح فقط فى الحد من شعور الدول الغربية بوخز الضمير من تحمل عبء هذه المسئولية التى تسببت فيها هذه الدول "الكبري" بشكل أو بآخر؟. وأكثر ما نجح فيه تنظيم داعش هذه المرة من خلال تلك الهجمات الباريسية هو تسليط الضوء من جديد على مسألة عودة اللاجئين إلى بلادهم، خاصة بعد العثور على جواز سفر سورى لأحد المهاجمين بموقع أحد الاعتداءات. وبعيدًا عن تصريحات الرئيس الأمريكى باراك أوباما، والتى أكد فيها عدم ربط هجمات باريس بملف اللاجئين، وعلى عكس تصريحات ممثل الخارجية الأمريكية مارك تونر والتى أكد فيها على أن بلاده لن تغير من خطتها باستقبال المهاجرين السوريين، فقد كشف أكثر من نصف حكام الولايات وأغلبهم من الجمهوريين عن رفضهم استضافة اللاجئين السوريين، وبلغ عدد هذه الولايات الرافضة لاستقبال اللاجئين 27 ولاية. الأمر لم يقتصر فقط على حكام الولاياتالأمريكية، بل وصل إلى المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث أكد العديد من المرشحين الجمهوريين للانتخابات، أنه لا ينبغى على الولاياتالمتحدة استقبال لاجئين سوريين خوفا من اندساس عناصر من تنظيم داعش. وفى فرنسا بالطبع اشتعل الموقف بمد العمل بقانون الطواريء وإغلاق عدة مساجد، ورفع الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند راية التأهب لإنقاذ بلاده مهما تكلف الأمر، وطالبت زعيمة الجبهة القومية اليمنية مارين لوبان بأن تستعيد باريس السيطرة على حدودها بشكل نهائى من الاتحاد الأوروبي، وأن "تقضى على التطرف الإسلامي"، أما ألمانيا، المقصد الرئيسى لمعظم اللاجئين وأكثرهم ترحيبا بهم فيما مضى، فقد تراجعت عن موقفها أيضا، حيث قالت وزارة الداخلية الألمانية إن الذين وصلوا للبلاد ربما يتم إرسالهم لدول أوروبية أخرى، كما أعلنت الحكومة النرويجية كذلك أنها ستعيد جميع اللاجئين الذين يدخلون أراضيها من روسيا. وتعد النرويج حاليا تعديلات على قوانين الهجرة إلى البلاد، من أجل تبنى إجراءات سريعة لترحيل طالبى اللجوء، دون انتظار صدور قرارات قضائية بشأن شكواهم ضد هيئات الهجرة. وسارت فنلندا على نهج سابقيها واستغلت الموقف لشن حملة وحشية شرسة عليهم لمضاعفة معاناتهم، حيث رجحت سكرتيرة وزارة الداخلية الفنلندية “بيافى نيرج” رفض السلطات 65٪ من طلبات اللجوء التى قدمت خلال الأشهر القليلة الماضية. ولم تختلف النمسا كثيرًا عن جاراتها الأوروبية، فقد قررت الحكومة النمساوية تشديد الرقابة على الحدود والمعابر، من خلال التحضير لبناء سياج بطول 24 كيلومترا على الحدود مع سلوفينيا لمنع تدفق اللاجئين. وكالعادة، اكتفت الأممالمتحدة بانتقاد هذه الدعوات معتبرة أن هذا الأمر "ليس الحل". ومن جانب آخر من القصة، يبدو أن داعش تفضل ألا يغادر اللاجئون المنطقة، كما أنها لا تريدهم أن يجدوا ترحاباً وملاذاً فى أوروبا فى الوقت نفسه، حيث سيتعرّضون، بحسب رأيهم، للكثير من الشرور والموبقات. وربما ليس هذا الهدف الأساسى للتنظيم، لكن ثمة ما يثير الشكوك بأن داعش تريد استغلال أزمة اللاجئين لزرع الشقاق، وزيادة التشنّجات، والتسبب بمزيد من الاستقطاب الحاد فى أوروبا. ولا شك فى أن هذا يعود بالفائدة على التنظيم الذى يسعى إلى نشر الفوضى والتسبب باندلاع حرب دينية بين المسلمين وغير المسلمين. ومن هنا، وجدت القارة الأوروبية نفسها فى حيرة، لأنها لم تكن فى الحقيقة مرحبة أبدا بتدفق اللاجئين عليها، وماطلت كثيرا حتى وضعت بعض الإجراءات العقيمة لاحتواء هذه الأزمة. وبشكل أو بآخر، وجدت القارة الأوروبية فى هجمات باريس عذرا جيدا لإزاحة هم اللاجئين من على كتفيها دون تحمل ذنبهم ومواجهة المزيد من الانتقادات من المنظمات المدنية والدول التى تعارض سياساتها فى الشرق الأوسط وإفريقيا. ورغم أنها كانت تماطل قبل أيام، فإن الاتحاد الأوروبى كان أول المرحبين بالتعاون مع حكومة العدالة والتنمية بعد فوزها الأخير فى الانتخابات البرلمانية التركية، رغم أنها كانت تعارض على طول الخط سياساتها الداخلية والخارجية، وغضت البصر"فجأة" عن كل التجاوزات التركية وانتهاكات حقوق الإنسان وقمع الحريات التى طالما انتقدتها وسارعت مؤخرا، وفى أيام قليلة فقط، بتوقيع اتفاق مع تركيا خلال قمة استثنائية لمنح أنقرة 3،2 مليار دولار ودغدغة حلمها الدائم بتسريع انضمامها إلى المنظمة الدولية مقابل مساعدتها فى وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا الذين يتخذون من تركيا معبرا إلى دول القارة الأخرى. وبعد 3 ساعات من المداولة، خرجت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتقول : "اتفقنا على مساعدة اللاجئين السوريين فى تركيا الفارين من العنف الدائر فى بلادهم، والذين يحاولون الوصول إلى أوروبا فى أضخم موجة هجرة تهدد وحدة الكتلة الأوروبية. وكما أكد أيضا رئيس المجلس الأوروبى دونالد توسك فإن الهدف الرئيسى من القمة هو وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، ولهذا تأكد قادة المنظمة، حسب الاتفاق، أنه سيتم تكثيف التعاون بمنع السفر إلى تركيا والاتحاد الأوروبى وضمان إحكام إعادة القبول وإعادة المهاجرين الذين ليسوا بحاجة للحماية الدولية لمواطنيهم على وجه السرعة، وبالطبع نالت تركيا "من الحظ جانب" ليس فقط بالتعهد بالإسراع بانضمامها للمنظمة، بل أيضا حصول الأتراك على وعد بدخول أوروبا دون الحاجة لتأشيرات دخول إذا أوفوا بالتزاماتهم بشأن تدفق المهاجرين خلال العام المقبل. وباتفاقات أو بدونها.. وبإجراءات أو بدونها.. يبقى الحال كما هو عليه فى النهاية، وسيظل اللاجئون يدورون فى حلقة مفرغة ليتحولوا من لقب لاجئين إلى مشتتين بلا مأوى تتقاذفهم لعبة المصالح تارة ولعبة المخاوف الأمنية تارة أخرى.