أثار أحد صقور المحافظين الجدد، السفير والباحث الأمريكى جون بولتون، الكثير من الإهتمام عندما اقترح إقامة "دولة جديدة" فى الشرق الأوسط وتحديدا فى المنطقة الواقعة بين العراقوسوريا. وقدم بولتون تصوره للدولة الجديدة التى ستقوم على أنقاض مناطق نفوذ تنظيم "داعش" ولنمط علاقاتها المتوقعة حال قيامها فى المنطقة. وأعادت تلك الرؤية إلى الأذهان عمليات العبث بخرائط دول العالم فى أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تمخض عنها من صراعات ودمار وعدم إستقرار إستمر حتى اليوم. فقد أشار بولتون - الذى يعمل لدى معهد أمريكان إنتربرايز وسفير الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة (من أغسطس 2005 إلى ديسمبر 2006) وأحد أبرز صقور المحافظين الجدد - فى مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى تصور لقيام دولة جديدة على أساس "مذهبى سنى" فى المنطقة الممتدة بين العراقوسوريا والتى تسيطر عليها حاليا جماعات مسلحة من أبرزها تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة". وأكد بولتون فى مستهل مقاله أن العراقوسوريا كما كنا نعرفهما قد ذهبتا لأن هدف إستعادة النظامين السورى والعراقى لحدود بلديهما السابقة يتناقض مع المصلحة الأمريكية والإسرائيلية. ويرى أن التحرك العسكرى الأمريكى الكامل ضد "داعش" يجب أن يكون مسبوقا بالتفاوض مع حلفاء حلف الأطلنطى "ناتو" وباقى الدول حول ماهية الكيان الذى سيحل محل "داعش" إذا تمت هزيمته. ووفق المنظور "المذهبى الطائفى" الذى تعتمد عليه الولاياتالمتحدةوبريطانيا حاليا فى التعامل مع أزمات المنطقة فإن "داعش" قد ولدت قوة سنية معارضة لنظام الأسد الشيعى وللنظام الحاكم الذى يحظى بدعم إيرانى شيعى مباشر فى العراق. وهناك أيضا الأكراد الذين يتمتعون حاليا بقدر من الإستقلالية على أرض الواقع. وبالتالى تسعى واشنطن إلى الدفع بخلافات المنطقة إلى مستوى مذهبى طائفى مباشر فى المرحلة القادمة. ولم يقبل بولتون وفق رؤيته بهزيمة "داعش" وإنتصار نظام الأسد فى سوريا والنظام العراقى الحالى واقترح إقامة دولة سنية مستقلة على أرض شمال سوريا وغرب العراق وذلك كبديل مريح لفكرة إعادة رسم خرائط "سايكس بيكو" التى تم تطبيقها بعد الحرب العالمية الأولى فى المنطقة! وحسب رؤية بولتون فإن الدولة السنية الجديدة جاهزة الموارد فلديها قدرة على إنتاج وتصدير البترول من الآبار التى تم الإستيلاء عليها من العراقوسوريا ولديها قدرات تفاوضية مع الأكراد، ويمكن توظيفها أمريكيا فى القيام بدور "إزعاج" كل من النظامين الحاكمين فى سورياوالعراق، كما ستخدم الدولة المقترحة المصالح التركية تجاه الأكراد!! وفى ذات الوقت يرى أن دولة كردستانية مستقلة فى المنطقة أصبحت أمرا واقعا وأنه لم يبق سوى الإعتراف الدولى بها حتى تبدأ فى خدمة المصالح الأمريكية فى المنطقة! أما النظام السياسى لتلك الدولة "المبتكرة" فقد رأى بولتون أنها ستكون دولة ذات طابع علمانى شبه سلطوى همها الأول هو الأمن والإستقرار. ويذهب مشروع بولتون إلى أهمية تمكين قادة سنيين من العراق وحزب البعث السورى والقبائل لتولى القيادة وتمويل المشروع عبر أموال خليجية عربية! ومن الغريب أن يتزامن مشروع بولتون مع دعوة باراك ماندلسون، أستاذ العلوم السياسية فى كلية هارفارد، الذى إقترح إنشاء دولة سنية تربط مناطق ما بين مناطق العرب السنة فى كل من العراقوسوريا ونصح واشنطن بالتخلص من حدود سايكس بيكو فى المنطقة. ويمكن وصف مشروع بولتون بأنه إعادة وتكرار للأخطاء التى سقط فيها "سادة العالم" عند إنتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 وقادت بشكل مباشر إلى إشتعال الحرب العالمية الثانية عام 1939، فعندما إنتهت الحرب العالمية الأولى قام المنتصرون ( بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة) بإعادة رسم خريطة أوروبا ومناطق النفوذ فى باقى أنحاء العالم بما فيها الشرق الأوسط عبر سايكس بيكو من جديد وفقا لأهوائهم الخاصة. وكان إقتطاع أجزاء من الأراضى الألمانية وتفتيت الإمبراطورية النمساوية المجرية وتحويلها إلى عدة دول جديدة وفق خرائط مرسومة فى لندن وباريس وواشنطن هو النواة الأساسية لقيام النزاعات المسلحة على الأراضى الأوروبية بشكل عام وفى منطقة الشرق الأوسط تحديدا. فعلى سبيل المثال لا الحصر ونتيجة للأخطاء فى إعادة رسم خريطة أوروبا بعد الحرب سادت ألمانيا رغبة عارمة فى الإنتقام واستعادة أملاكها المقتطعة بشكل غير مدروس. وكانت تلك الرغبة الإنتقامية هى الدافع الأساسى الذى أتى بالنازيين وزعيمهم أدولف هتلر إلى سدة الحكم عام 1933 عبر إنتخابات ديمقراطية! كما أتت ذات الرغبة الإنتقامية بالفاشية، بزعامة موسولينى، فى إيطاليا. ودخلت النازية والفاشية معا فى تحالف لإعادة رسم خريطة أوروبا والعالم من جديد لتقوم الحرب العالمية الثانية حاملة الدمار والخراب إنطلاقا من الأراضى الأوروبية إلى العالم أجمع. ولم تكن أخطاء إعادة رسم خرائط دول وأقاليم العالم بعد الحربين الأولى والثانية مقصورة على أوروبا. فقد أقدم المنتصرون فى الحربين وفى مقدمتهم الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا على إعادة رسم خرائط العالم وفى كل مرة كانت النتيجة هى نشوب الحروب والخراب. فعلى أرض أوروبا إختفت إمبراطورية النمسا والمجر وظهر الصراع بين التشيك والسلوفاك والجمهوريات اليوجوسلافية وجميعها صراعات إمتدت وتمددت وتحولت إلى حروب فى عقد التسعينيات. وفى آسيا نجد أن الهند وباكستان من أبرز ضحايا العبث بالخرائط عقب الحرب العالمية الثانية. وقد أدى رسم خرائط الشرق الأوسط بعد الحرب الأولى والثانية إلى نشوب صراعات وحروب مازالت مستعرة فى المنطقة حتى اليوم¡ ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، والنزاع بين إسرائيل وكافة دول الجوار، والنزاع السورى التركى. وقد ظهر الكثير من الأخطاء التى إرتكبها الغرب فى الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة مثل : تدعيم عناصر الفاشية الدينية فى العديد من دول المنطقة، وإستغلال نشاط عناصر فوضوية مسلحة لخدمة أغراض خارجية، والإستعانة بنشاط عناصر مسلحة ذات توجهات إرهابية فاشية دينية (مثل داعش والنصرة والقاعدة) لتمهيد المنطقة لعمليات إعادة رسم خرائط السيادة والنفوذ والسلطة من جديد وفقا لمصالح الغرب، وتشجيع عمليات تأجيج التنافس والصراع على أسس مذهبية وطائفية فى المنطقة، والعمل بشكل غير مباشر ثم مباشر فى مرحلة تالية على إستمرارية الإختلال فى موازين القوى بين الدول العربية القائمة فى المنطقة من جانب والأطراف المسلحة من غير الدول من جانب آخر (حالات العراقوسوريا وليبيا واليمن). وهكذا يبدو أنه من "الحكمة" أن تدرك القوى الخارجية الغربية أن تصحيح الاخطاء يجب ألا يتم بارتكاب المزيد من الأخطاء، وأن مجموعة الدول الغربية ليست وحدها صاحبة المصالح فى المنطقة فهناك قوى كبرى وإقليمية لديها هى الأخرى قائمة من المصالح التى ترغب فى حمايتها. أما الأهم من كل ما سبق فهو وجود مصالح لدى الشعوب والحكومات الموجودة فى المنطقة والتى تعد، حتى الأن على الأقل، صاحبة الأولوية والحق المشروع فى تقرير مستقبلها والدفاع عن سيادتها وفق مبادئ القانون الدولى وميثاق الأممالمتحدة، وهى المبادئ التى سيؤدى التمادى فى تجاهلها إلى إنهيارها وإنهيار إستقرار وأمن وسلام العالم أجمع.