صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة دراسات شعبية، كتاب «التاريخ الشعبي لمصر في فترة الحكم الناصري: رؤية جديدة من وجهة نظر المهمشين» للدكتور خالد أبو الليل. وتقوم فكرته على الاستفادة من التاريخ الشفاهي في كتابة تاريخ شعبي موازٍ لفترة تاريخية مهمة من تاريخنا الحديث، حتى لا تنفرد النخبة بتسطير التاريخ على هواها. كثيرون أرَّخوا لقادة ثورة يوليو، وما أعقب الثورة من أحداث مهمة، لكنهم أغفلوا الجماعة الشعبية، لكن بعد مرور أكثر من 60 عاما على ثورة يوليو 1952 تدور في الأذهان أسئلة متعددة حول قيامها، وأهدافها ونتائجها، من وجهة نظر المهمشين، بما يحملونه من ذكريات حول هذا الحدث. الكتاب حاول البحث عن إجابات لهذه التساؤلات وغيرها، بالنبش في ذاكرة المسنين من البسطاء المهمشين، ممن شاركوا في صناعة الحدث، ولم يلتفت إليهم التاريخ الرسمي. بغض النظر عن مدى توافق رؤاهم مع رؤية التاريخ الرسمي أو اختلافها عنه، اعتمادا على ذاكرة هؤلاء المسنين، وما يحفظونه من مأثورات شعبية ذات وظيفة تاريخية مرتبطة بتلك الفترة، وهو ما تطلب منا عملا ميدانيا واسعا شمل معظم أرجاء مصر، من سيناء إلى السويس وبور سعيد، وأسوان وقنا وسوهاج وأسيوط والمنيا، وبني سويف والفيوم والمنوفية والجيزة والقاهرة والإسكندرية، وغيرها من محافظات التقى فيها الباحث رواة وشهود عيان أميين في غالبياتهم. تناولت الدراسة في جزئها الأول الإطار النظري لمصطلح التاريخ الشفاهي بأبعاده المختلفة. وفي الجزء الثاني توقفت أمام عدة أحداث أساسية مثل اللحظات الأولى لقيام الثورة، وصراع السلطة (جمال عبد الناصر ومحمد نجيب والإخوان المسلمون)، والتحديات الخارجية الكبرى (الجلاء- التأميم- العدوان الثلاثي- السد العالي)، وعبد الناصر ومشروع القومية العربية (الوحدة العربية، حرب اليمن)، وزلزال النكسة وتوابعها، وحرب الاستنزاف، ووفاة عبد الناصر ونهاية الحلم الناصري. والدراسة ربطت علم المأثورات الشعبية (الفولكلور) بعلوم التاريخ والاجتماع والأنثربولوجي. ولأن علم التاريخ يكتب عادة من وجهة نظر النخبة، فقد هدف المؤرخون الشفاهيون مبكرا لجمع ذكريات تقدم أبعادا جديدة لفهم الماضي. وفى بريطانيا كان لحركة ورشة عمل التاريخ الشفاهي The History Workshop Movement، التي اهتمت بشكل أساسي بتاريخ العمال والتاريخ النسوي، دور مهم في مساندة نمو التاريخ الشفاهي. وفي هذا السياق يقول « هوارد زن»، في تأريخه الشعبي لأمريكا : «إنني أفضل أن أحكي قصة اكتشاف أمريكا كما رآها هنود أراواك، وأن أحكي عن الدستور من وجهة نظر العبيد، وعن آندرو جاكسون من خلال عيون هنود الشيروكي، وعن الحرب الأهلية كما رآها الأيرلنديون الذين كانوا يقطنون نيويورك. وكذلك أفضل أن أكتب عن الحرب المكسيسكية كما رآها جنود جيش سكوت الهاربون، وعن ازدهار التصنيع كما رأته الشابات العاملات في مصانع لويل للنسيج ... وذلك إلى الدرجة التي يستطيع بها أي شخص أن «يرى» التاريخ من وجهة نظر «الآخرين». ويرى قاسم عبده قاسم أن التاريخ « كان مرادفا لسير الحكام والقادة والنخب التي تحيط بهم. ولم يكن هناك مجال للأفراد العاديين والجماعات العادية من صناع التاريخ الحقيقيين بطبيعة الحال. وقد طالت هذه المرحلة في تاريخ التاريخ أكثر من غيرها». وهو ما يسميه «جيم شارب» «التاريخ من أسفل History from below»، أي «دراسة التاريخ من وجهة نظر صناع التاريخ الحقيقيين من عامة الناس والبسطاء، بدلا من القادة، والعمال المزارعين بدلا من الحكام والقادة والملوك». وذهب «هارولد بيركين» Harold Perkin فى عام 1976 أن «صنع «التاريخ من أسفل» يعني التفكير بشكل جزئي فيمن هم «محجوبون عن التاريخ». إن المؤرخين الشفاهيين لا يريدون رسم خريطة لجوانب حياة المهمشين وانعدام قوتهم فقط، بل يريدون أيضا تسجيل حالات المقاومة والخضوع. ويودون رصد المحاولات الناجحة وغير الناجحة لايجاد التغيير بواسطة المجتمع الأقل قوة. لضمان مشاركة أكبر قطاع في إنتاج التاريخ. وأنتجت الدراسة الميدانية أكثر من مائة ساعة بالصوت والصورة، من معظم مناطق الجمهورية، عبارة عن حوارات مع أبطال حروب 56، واليمن، ونكسة 67، والاستنزاف، وأكتوبر 1973، حكوا خلالها جزءا من هذا التاريخ داخل المعسكرات المصرية. بجانب شهادات لشهود عيان من الصحفيين، وكتب صفراء لم تلق رواجا بين الباحثين، لكنها قدمت رؤى أقرب إلى وجهات النظر الشعبية. والكتاب مقسم لجزءين، الأول نظري يضم فصلين، الأول عن التاريخ الشفاهي، والثاني هو الدراسات السابقة للتاريخ الشفاهي، وهو تحليلي يعيد كتابة تاريخ مصر الحديث في فترة الحكم الناصري (1952- 1970) من وجهة نظر الشعب المصري. بالاعتماد على الحوارات المباشرة مع عدد كبير من المتحاورين الشعبيين، ممن شاركوا في أحداث تلك الفترة، أو عايشوها. ويعني التاريخ الشفاهي من جانب آخر استكمال نواقص التاريخ المكتوب، سواء فيما سكت عنه المؤرخون، أو في المجتمعات التي تأخرت فيها الكتابة. ويتم ذلك بسرد التفاصيل، أو رأب تصدعات في التاريخ المكتوب، أو سد فجوات تاريخية لم يستكملها التاريخ المكتوب. ويمكن أن تلعب المأثورات الأدبية الشعبية هذا الدور التاريخي، وهو ما دفع المؤرخين الشفاهيين للاعتماد على السير والحكايات الشعبية، والنظر إليها بوصفها أحد مصادر التأريخ في بعض هذه المجتمعات التي لم تفِ فيها المصادر المكتوبة بأداء مهمتها. فالسير الشعبية وإن كانت لا تصلح وثيقة تاريخية على نحو كامل فإنهاذ بحسب عبدالحميد يونس «تصلح مرجعا لدراسة المجتمع العربي الإسلامي في العصر الذي كتبت فيه، لا العصر الذي كتبت عنه بطبيعة الحال، وإن تقارب العصران ... ومن ذلك نرى أن السيرة تتفق مع التاريخ الاجتماعي في الملامح العامة». والأمر نفسه يصدق على أشكال المأثورات الشعبية الأخرى، مثل الأغاني الشعبية. فإذا كانت الرواية في حد ذاتها منتجًا اجتماعيًا يحمل بالضرورة نمطًا ثقافيًا، «فيمكن اعتبار السير والأغاني الشعبية المتوارثة دالة وتحمل ملامح من تاريخ أولئك «المحجوبين عن التاريخ». وبالتالي يمكن اعتبارها نوعًا من مصادر التاريخ الشفهي ، وشكلاً من أشكال الوثائق المتفردة. وهو ما يضفي أحيانا نوعا من الخيال على شهادات بعض هؤلاء الشهود، لاستكمال نواقص حقائق التاريخ، على النحو الذي لا يبتعد فيه الخيالي كثيرا عن التاريخي. ف «التسجيلات التاريخية عادة ما تكون غير مكتملة، والخيال يجب أن يملأ الفجوات في المعرفة، يجب أن ينبثق من الحقائق، وأن يكون متوافقا معها». وهذا الأمر فرض على المجتمعات الشفاهية ضرورة تقدير الرواة الشفاهيين واحترامهم بدرجة عالية، بوصفهم حملة لهذا التاريخ. ففي مثل هذه المجتمعات «كان يبدو لنا الراوي كواحد من أكثر أعضاء هذا المجتمع أهمية، لأنه حافظ على العادات والتراث ومباديء حكم الملوك. لقد أجبرت القلاقل الاجتماعية الناشئة عن الغزو، هؤلاء الرواة على العيش مثلما هو حادث الآن- بطريقة مختلفة، حيث كان يشكل نفوزهم إلى ذلك الحين- من فن الكلام والموسيقى» . ومن مجالات التاريخ الشفاهي الأخرى التي اكتفى الباحث بالإشارة إليها هنا «التاريخ الشفاهي لطبقة العمال»، و«التاريخ العسكري»، و«تاريخ الأقليات العرقية».