كان في غابتنا البديعة, ذات الحيوانات الوديعة, ثعلب مكار, سميناه أبو الشطار. كان ينام حين نصحو, ويصحو حين ننام, وكان سيد اللئام, ويمشي بنا دائما إلي الخلف, كلما سرنا نحن إلي الأمام. وكان الثعلب المأفون, مستشار الغابة للثقافة والعلوم والفنون. وكانت للثعلب اللئيم, عباءة في لون البرسيم, تضيء في الليل البهيم. فلما سألناه: ولماذا هذا اللون يا أمير؟ أجاب: هذا هو لوني الأثير, الذي يناسب عقولكم يا حمير. تعجبنا آنئذ غاية العجب, وبلغ منا مبلغه النصب. إلا أن صديقنا الحمار, ذا العقل الجبار, والمواعظ والأفكار, كان الوحيد المختار, الذي خاف منه الثعلب المستشار, وتربص له بالليل وبالنهار, وكان يعمل له ألف حساب, لأن الحمار, كان صاحب تفكير وقلم وكتاب. وكان الثعلب يخاطبه دائما علي الملأ: أن ياحماري الممتليء, كن لي أنا وحدي, ولك مني العشب كله والكلأ. وأتي لنا المستشار ببدعة غريبة, أغراضها مريبة, سماها- قال إيه- الضريبة.. ومن خلالها أفرغ اللئيم, جيوبنا من كل قرش ومليم. وكانت بداية الآلام, أن خفض لنا حصة الماء والطعام. وأصدر الثعلب الأثيم, فرمانا سماه التعميم, بأن الشبع أمر ذميم, وفرض علي الجميع, جوعا قاسيا, سماه الريجيم. وحينئذ ذبلت فينا الأجساد, وصرنا مضحكة الأمم حولنا والبلاد, وتحولنا إلي جلد تحته عظم, ومغصت البطون واشتد الألم. ثم كان من أغرب الأمور, أن أمر الثعلب المدحور, بالتفريق بين إناثنا والذكور, وقال إنه يؤمن بالاحترام, ويعشق الاحتشام, ويكره أن ينتشر في غابتنا الالتصاق الحرام. وحرم علينا المعتوه الخلفة, بحجة الحفاظ علي الشرف والعفة. وذات يوم أخذته الجلالة, فأطلق علينا رجاله, الغلاظ الحثالة, وأمرهم بالبدء في إخصائنا, فأوغلوا في بتر أعضائنا. فلما أن صرخنا من الألم, وكرهنا انعدام الرجولة فينا والعقم, قال لنا الثعلب بمنتهي الغل: اسمع أنت وهو يا بغل, إن الحكمة والعقل, تقتضيان قضاء الليل, دون رومانسيات أوقبل. وكان تبرير الثعلب الفسل, أن تحديد النسل, هدفه توفير الزاد والطعام, ومنع الخنقة والزحام.. فبتنا ليالينا عذابا في عذاب, وسالت علي صدورنا الريالة واللعاب, وغصت أجسامنا بالاحتقان والالتهاب. فلما أن أنهكتنا الرغبة والحرمان, وأوشكنا علي الغليان, واشتد بنا الغيظ والغضب, وكدنا نشعل الغابة صراخا وشغب, تفتق ذهن الثعلب, عن حيلة أنهكتنا من التعب. لقد أحضر لنا الثعلب المكير, الجهاز الكبير, ذا الأضواء والغناء والتصاوير, والموسيقي الصاخبة والهدير. فكنا طوال الليل حول الجهاز نتحلق, وكل أهبل فينا وأحمق, يظل في الشاشات يبحلق ويحملق, وسمعنا في الجهاز كلاما ما هو بالكلام, بل تهويمات لفظية كلها إبهام, وتسطيحات وخزعبلات وإيهام, وعندما كنا نصحو من المنام, كنا نشعر بتكسير العظام. واستعمر أعيننا الضباب, فصارت أيامنا هبابا في هباب. وكنا إذ نتنفس, ينحبس الهواء في الصدور, فتصير الصدور, كأنها قبور. وهنالك أصيبت عقولنا بالدوار, وزاد بيننا الشجار, إلي أن زارنا ذات يوم مثقفنا الحمار, ولف علينا ودار, من دار إلي دار, وأفهمنا أصل المسألة, ولب المشكلة. قال لنا صديقنا الحمار: إن الثعلب المكار, ينهككم في الليل, كي يستعبدكم في النهار, ومن ثم تغيب الحيوانات عن الوعي, وتنهمك في الثرثرة والرغي, فيخلو له الاستئثار, بالأشجار والثمار, ويغرق هو وجماعته العاطلة عن العمل, في العناقيد واللبن والعسل, تاركين لكم البقايا والفتات, والجاف من الأعشاب والنبات, فتموتون وأولادكم من الجوع, كي يحيا هو وحده الجربوع. سألناه: وما الحل يا أخانا الفالح, يا صاحب العقل الراجح, الذي بالحكمة طافح؟ فقال: هيا يا أماجد, هبوا هبة رجل واحد, علي الجهاز المضيء الفاسد, فدشدشوه بالمطارق, وأحرقوه في المحارق, وبهذا تبطلون مكره والحيلة, وتستردون غابتكم الجميلة. لكننا حين أتي علينا المساء, وغاب عن الغابة الضياء, عثرنا علي صديقنا المهزاء, ملقي نافقا في العراء, دون هدوم أو كساء, غارقا في الدماء. فلما أن استفسرنا عن حقيقة الخبر, قال لنا الغجر: حماركم قد انتحر!