غابتنا كانت- عندما يكتمل القمر، فيصير بدرا كالقمر- أجمل غابات الكون، والحياة بها كالدرّ المكنون، و كانت أنهارها كالعسل، ونهارها أملا فى أمل.. وأمّا لياليها فهناء ورخاء، وسكينة وكسل. وكنت- إن تنسّمت نسيمها- شفاك النسيم من كل العلل. وكنّا نحبها بجنون، وكلنا فى حبها، بين متيّم ومسحور ومفتون. عشقناها عشق الشجيرات للمطر، أو كعشق المجذوبين للعظات والعبر.. وغنينا لها، أغنيات لم يسمعها من قبل، أى بشر. وكان ماؤها أحلى ماء، وليس فى زرقة سمائها أى سماء. وتقول كتب التاريخ، المملوءة بالحوادث والأخبار والتواريخ، إن غابتنا- لأنها أقدم غابات الدنيا- فقد سمّاها أجدادنا» أم الدنيا». غير أن دوام الحال من المحال.. وبين طرفة عين وانتباهتها، يبدّل الله من حال إلى حال.. وليس اليوم أبدا كالأمس.. ففى يوم لم تطلع عليه شمس.. صحونا على همهمات خبيثة وهمس.. ونظرنا فرأينا أوراق الشجر، تبكى بدموع حارة كالجمر.. والندى فوق الفروع تجمد وتحجر.. وكفّ الصفصاف عن الاستحمام فى النهر.. والطير للأعشاش هجر.. والتفتنا فإذا الغابة قد وطأها الغجر، وسادها الغبار وانتشر الضجر.. وتفشى فيها العنف والشجار، والعض والعقر والنقار.. فلما أن سألنا: ما الخبر؟ قيل لنا: غابتكم بيعت يا بشر، خلاص.. خصخصوها.. فاشتراها الضباع والمغامرون والبقر. وبين عشية وضحاها، أحاط بالغابة الكرب فغطّاها، واستوطن الحزن صبحها ومساها، والألم بعد ذلك كساها. وامتلأت الطرقات بالروث.. وصارت الحياة عبثا فى عبث. ورأينا عمالا كالأغراب، زعيمهم غراب، يشيدون قصرا من حديد، مقرا للسيد الأسد الجديد، وسمعنا القرد الملعون، يصرخ فينا بجنون: أنا يا أوباش اسمى ميمون، وأنا مستشار الزعيم، وحامل أختام الأسد العظيم. .. ثم فوجئنا به يقدم لنا أوراقا سودا، سمّاها « عقودا»، وطلب منّا جميعا التوقيع، وقال إنها مستندات للبيع، فلما أن سألنا عن الثمن، أجاب القرد النتن: بقاؤكم أحياء- يا جرابيع- هو الثمن.. فاندفعنا خائفين كالبلهاء، وبصمنا كلنا فى غباء، ولم نكن ساعتها ندرى، أننا- دون أن ندرى- كنا نسلم للسيد أعناقنا، ونبيع له دماءنا . وبعد أن كنا فى الزمن الجميل، نأكل من العشب والنجيل، حتى نكتفى ونشبع، ونكتب الأشعار فنبدع، إذا بالمليك الأسد، سيد البلد، يصدر فرمانه الشهير، الذى أقنعه بإصداره القرد المكير؛ بأن كل الحيوانات، ستصرف لها بطاقات، يحدد فيها عدد الوجبات والطقّات، وذلك حفاظا على الموارد، الصادر منها والوارد. وكان فى غابتنا حمار عبيط، يحمل أسفاره وكتبه فى غبيط، ويدمن حش القرنبيط، وترديد الكلام الكبير على مسامعنا فى الغيط. وقد قام المهفوف، فسمّى نفسه البيه الفيلسوف. ولأن معظم الحيوانات آنئذ عانت من البطالة، بعد أن طردت من المصانع الناس الشغّالة، فقد أصبحنا عالة تنفق على عالة، ولم يعد أمامنا إلّا الثرثرة الفارغة والقوالة. وهكذا اعتدنا التحلق حول الحمار الشايب العايب، لسماع ما يصدر عنه من سوالف ولطائف وعجائب. وهو بدوره، ودون حياء أو تعفف، أقنعنا بأنه- قال إيه- مثقّف، وارتدى النظارات فوق عينيه، وحشر السيجار بين شفتيه، وصار يشرب القهوة بدون سكّر، خشية أن يرتفع عنده السكّر! فلما تفشى الجوع بيننا والعطش، وطفش من الغابة من طفش، هزّ لنا الفيلسوف رأسه فى وقار، وهتف فينا دون اعتذار: إن مشكلتكم يا شطّار، أن أجسامكم التخينة، فوقها رأس حمار. ونسى المأفون أنه مثلنا؛ حمار وحفيد حمار. ولما أن سمع الفيلسوف ذو النهقة، بإتمام الصفقة، وبالبيع الذى تم بلا عدل ولا شفقة، ابتسم فى وجوهنا باستهزاء، وسألنا فى استياء: وأين كنتم يا أصحاب الأرض، عندما نهبوا الثروات وانتهكوا العرض؟ هيا هيا جاتكوا ألف نيلة.. فليس للساكت عن حقه أى عذر أو حيلة. وما إن أتم صاحب الحافر، كلامه الخطير المغامر، إذا بالسماء تملؤها الغيوم، وبالغيط يكتظ بجند الروم، ينهالون فوق رءوسنا بالعصى والشوم، و عندئذ وقف القرد ميمون، يسألنا بصوت رخيم حنون: من منكم يا زبالة الزبالة، يصدق كلام هذا الحمار الحثالة؟ ألا تعلم منّك له يا شاطر، أن من يصدق حمارا، هو كافر وأبوه كافر؟ فصرخنا كلنا فى صوت واحد مهول: لا والله يا عمنا بهلول.. نحن لا نعرف أبدا هذا المخبول.. الذى أغرقنا فى كلامه المعسول.. ونحن والله أبرياء من دمه، ومستعدون أن نحشر أحذيتنا حالا فى فمه. .. هنالك رأينا الحرس، يعلقون فى عنق الحمار الجرس، ويقتادونه كالبهيمة إلى ظلمة الحبس، وساعتها أصابنا كلنا داء الخرس، فلم يخرج من واحد منّا أى همس أو نفس!