أعلنت الحكومة تأجيل إصدار قانون التأمين الصحى الجديد، وأنه سيتم تحويل مشروع القانون إلى البرلمان القادم، كى يتولى ممثلو الشعب مناقشته واتخاذ ما يلزم نحو إصداره أو رفضه أو تعديله. الحكومة تقدم القانون باعتباره قانونا للتأمين الصحى الاجتماعى الشامل، أى أنه يغطى جميع المواطنين و كل الأمراض، وهو حلم كبير يتمنى كل مواطن تحقيقه بالفعل. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الشعار الرائع والنبيل فإن قانون التأمين الصحى الجديد يعتبر من القوانين سيئة السمعة، نظرا لارتباطه بسعى الحكومات المتعاقبة لخصخصة نظام التأمين الصحى فى مصر، وتحويله من نظام خدمى يستهدف الوفاء بحق المواطنين فى الصحة إلى نظام ربحى يحول هذا الحق إلى سلعة تباع وتشتري، ولا يتمكن من الحصول عليها إلا القادرون. عندما تطرح الحكومة على الشعب مشروع قانون جديد للتأمين الصحى يضع الجميع يدهم على قلوبهم خوفا مما سيأتي. الحكومة تقول إن تكلفة التأمين الصحى الشامل سيتحملها ثلاثة أطراف، الموازنة العامة للدولة، والاشتراكات التى يدفعها المواطنون، والتمويل المجتمعى. المواطن يضع يده على قلبه خوفا حين يسمع تصريحات متناثرة حول تحميله ليس فقط بمبلغ الاشتراك فى التأمين ولكن أيضا مساهمة فى تكاليف الأشعات والتحاليل والأدوية ورسوم الكشف يمكن أن تصل إلى 400 جنيه شهريا، وهو رقم مفزع بكل المقاييس فى بلد يتحدد فيه خط الفقر بنحو 334 جنيها شهريا. طبعا الحكومة تقول إنها ستتحمل أعباء اشتراكات غير القادرين، ونحن نقول.. أفلح إن صدق!. المعلومات التى سبق إعلانها عن مشروع القانون تشير أيضا إلى أن التمويل المجتمعى الذى تقصده الحكومة يتمثل فى فرض مجموعة من الرسوم التى تعلى على ثمن عدد من السلع والخدمات وتؤدى فى النهاية إلى رفع الأسعار، وازدياد وطأتها على أصحاب الدخل الثابت والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة. المشكلة أن البرلمان القادم الذى بدأت تتضح معالمه لا يوحى بوجود من يتحدث باسم هذه الشرائح الاجتماعية عند مناقشة مشروع قانون التأمين الصحى الجديد، ولا يوحى بوجود من يتحدث باسم ملايين العاملين فى الزراعة البحتة وخدم المنازل والعاملين لدى أسرهم والذين ما زالوا خارج مظلة قانون العمل وخارج مظلة التأمين الصحى؟ ننظر إلى تركيبة البرلمان الجديد ونقول ربنا يستر!. مشروع القانون يتضمن وجود 3 هيئات، هيئة التأمين الصحى التى تتولى تحصيل الأموال، وهيئة الرعاية الصحية التى تضم وحدات الرعاية الأولية والمستشفيات المعتمدة التى يتم التعاقد معها لتقديم الخدمة، والهيئة المصرية للاعتماد المسئولة عن مراقبة جودة الخدمة. فصل تحصيل الاشتراكات عن تقديم الخدمة، وطرح إمكانية التعاقد مع القطاع الخاص يفتح الباب لتقديم الخدمات الصحية على أساس ربحي، ليكون الشعار هو من يملك يعالج، ومن لا يملك يموت.. وهنا يجب الإشارة إلى أن القانون السارى حاليا فى شأن التأمينات الاجتماعية رقم 79 لسنة 1975 يكاد «يتلكك» لكى يضم المواطن تحت مظلة التأمين الصحى، حيث ينص على أن شرط الانتفاع بمزايا نظام التأمين الصحى يتمثل فى مجرد أن يكون المريض قد اشترك فيه لمدة ثلاثة أشهر متصلة أو ستة أشهر متقطعة، وأن أحكام العلاج والرعاية الطبية المنصوص عليها فى القانون تسرى على أصحاب المعاشات ما لم يطلبوا عدم الانتفاع بها، كما أنه يجوز لرئيس الوزراء أن يصدر قرارا بسريان أحكام التأمين الصحى على زوج المؤمن عليه أو صاحب المعاش ومن يعولهم من أولاد. وعلى العكس من هذا التوجه الملحوظ لمد مظلة التأمين الصحى إلى كل من له صلة بنظام التأمينات الاجتماعية، نجد مشروع القانون الجديد ينص صراحة على أنه يشترط للانتفاع بخدمات التأمين الصحى الاجتماعى الشامل أن يكون المنتفع مشتركا فيه ومسددا للاشتراكات بشكل منتظم. إذن النظام فى الحقيقة يشمل فقط القادرين على الدفع.. أما باقى المواطنين فينتظرهم وعد مبهم من الحكومة بأن تتولى هى دفع اشتراكاتهم. فتح الباب للتعامل مع الحق فى الصحة على أساس ربحى يشمل التعاقد التصريح مع المؤسسات الخاصة لتقديم خدمات الرعاية الصحية للمواطنين، كما يشمل المشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص فى مشروعات الصحة. القانون الذى ينظم هذه المشاركة هو القانون 67 لسنة 2010، والذى تم إصداره فى عهد مبارك. وفقا لذلك القانون لا يقتصر دور القطاع الخاص فى تنفيذ مشروعات تأهيل المستشفيات العامة والجامعية على التمويل والبناء والتجهيز وإنما يمكن أن يشمل أيضا التشغيل والصيانة والاستغلال، وحق الإدارة وتقديم الخدمة سواء للدولة أو مباشرة للجمهور، علما بأن مدة التعاقد يمكن أن تصل إلى 30 سنة من تاريخ اكتمال المشروع قابلة للزيادة بقرار من مجلس الوزراء، وقابلة للتجديد لثلاثين عاما تالية. القانون يتيح ذلك كله للقطاع الخاص سواء كان محليا أو أجنبيا. طبعا من المفهوم أن الحصول على الخدمة مباشرة من القطاع الخاص تعنى التعامل بأسعار القطاع الخاص. حكوماتنا المتعاقبة لا ترى سبيلا لتطوير نظام التأمين الصحى إلا التشبه بالنظام الأمريكي، رغم أن هذا النظام بالتحديد يترك ما يزيد على 40 مليون مواطن أمريكى دون أى تأمين صحي. ولا نفهم لماذا لا تنظر الحكومة إلى نماذج التأمين الصحى فى انجلترا وفرنسا وألمانيا وهولندا؟ كلها دول رأسمالية تتبع نظام السوق وكلها تتعامل مع الصحة باعتبارها حقا وليس تجارة. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى