في دعوة لحلحلة الأمور العالقة بالحياة السياسية اللبنانية دعا رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلي عقد جلستين متتاليتين الأسبوع الماضي للتشريع تحت مسمي "تشريع الضرورة" بعد تعطيل مستمر لمجلس النواب الممدد له، في ظل الشغور الرئاسي للعام الثاني علي التوالي ،وفي ظل تعطيل عمل الحكومة اللبنانية برئاسة تمام سلام نظرا لتغيب وزراء حزب الله وحليفه زعيم التيار الوطني الحر المرشح الرئاسي الأقوي العماد ميشال عون ،وفي ظل استمرار مشكلة النفايات دون حل للشهر الخامس علي التوالي. وفي البداية إعترضت الكتلتان المسيحيتان الكبريان علي جدول الأعمال، ورفضتا المشاركة في الجلستين إلا بعد تضمين بندين جديدين في جدول العمال وهما قانون إستعادة الجنسية للمغتربين اللبنانيين، وقانون إنتخاب جديد لاينتقص من حقوق المسيحيين لصالح المسلمين. وكانت هي المرة الأولي التي تتفق فيها كتلتان مسيحيتان بالرغم من إختلافهما الجوهري، فكتلة العماد ميشال عون زعيم التيار الوطني الحر حليف حزب الله عضو فاعل وقوي في فريق 8آذار المؤيد لبشار الأسد وإيران، وكتلة الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية عضو فاعل وحليف قوي في فريق 14آذار المناهض للأسد وإيران وحزب الله،حيث اتفق جعجع وعون علي إبداء مصلحة المسيحيين أولا في ظل صراعهما المستميت علي كرسي رئيس الجمهورية منذ مايو 2013وحتي اليوم، وهي المرة الأولي التي يتفق فيها جعجع وعون منذ عشرات السنين،وبالفعل نتيجة موافقة رئيس وزراء لبنان الأسبق زعيم تيار المستقبل السني سعد الحريري علي مطالب عون وجعجع، وكذلك موافقة حزب الله وحتي لاتطير جلستا تشريع الضرورة تم إدراج قانوني استعادة الجنسية والإنتخاب علي جدول الأعمال. أما بقية البنود التي ناقشتها جلستا تشريع الضرورة فكانت تخص أمورا مالية وقروضا واتفاقيات،وذلك في غياب بنود مثل سلسلة الرتب والرواتب. وحده حزب الكتائب الحليف القوي في فريق 14آذار إنسحب من الجلسة الأولي لتشريع الضرورة ، استناداً إلى الموقف المبدئي بأن لا تشريع في ظل الشغور الرئاسي،لأنه من الضروري تشريع اقتراحات القوانين الموجودة في الأدراج، مع أن الضرورة الأكبر هي انتخاب رئيس وأن تنعقد الحكومة والضغط على الأطراف لعدم التعطيل، لأن الأزمة وصلت الى مرحلة الانهيار السياسي الكامل للدولة ولهيبتها، ولذلك قرّر حزب الكتائب اللبنانية ألا يسير في التسوية التي دخل فيها التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية تحت عنوان "تشريع الضرورة"، مؤكدا أنه أقدم على هذه الخطوة حفاظاً على الدستور والموقف المبدئي الذي أعلنه وهو ألا تشريع في ظل الفراغ الرئاسي. أما الدروز فقد شاركوا في الجلستين، وكان زعيمهم في لبنان النائب وليد جنبلاط قد حذر من أن مقاطعتها هي عملية انتحار ذاتي، والمشاركة في جلستي تشريع الضرورة فرصة لا تأتي كل يوم، وعلينا أن ننتهزها من دون مزيد من التسويف، وأن نكف عن تدمير أنفسنا بأنفسنا. ونظرا للظروف المالية الخانقة التي تمر بها لبنان التي أخرت صرف رواتب العسكريين البالغ عددهم مائة ألف،وكذلك المخاطر التي تهدد قيمة صرف الليرة اللبنانية،قام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتحرك ميداني في اتجاه السراي الحكومي، ومجلس النواب، فالتقي رئيس الحكومة تمام سلام ،ثم رئيس مجلس النواب نبيه بري وأطلعهما على تداعيات التأخر في اقرار المشاريع المالية الملحة، وطالب سلامة بضرورة انعقاد مجلس النواب لإقرار قوانين تتعلق بقروض التنمية وإصدار الديون.. إضافة إلى تشريعات مصرفية تتعلق بحركة الأموال عبر الحدود ومكافحة التهرب الضريبي وتعديلات على قانون مكافحة غسل الأموال. وبدلا من النزول إلى الشارع الذي هددت به الكتل المسيحية ، وصولاً الى استعادة الخطاب الطائفي والمذهبي، تم التوافق على مشاركة كل الكتل النيابية في جلسة تشريع الضرورة. وقد لعب تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري دور الوسيط عبر الإتصالات، وعقد لقاء في جدة مع رئيس الحكومة تمام سلام والوزراء سمير مقبل، علي حسن خليل، وائل أبو فاعور، وجبران باسيل، ليصدر بعده بيان يحدد نقاط التسوية التي وافق عليها الجميع وهي: المشاركة في الجلسة لإقرار المشاريع المالية التي تتعلق بمصلحة لبنان المالية والاقتصادية وعلاقته بالمجتمع الدولي، والإلتزام بعدم حضور أية جلسة لاحقة لا تكون مخصصة لمناقشة قانون جديد للانتخابات بهدف التوصل إلى صيغة لإقراره، والتصويت لإقرار قانون تحديد شروط استعادة الجنسية اللبنانية كما تخلص إليه اللجنة النيابية المكلفة بوضع نصه النهائي. وبالفعل تم عقد الجلسة واقرار القوانين المالية واستعادة الجنسية مع تعهد ببحث قانون الانتخاب في أول جلسة مقبلة، وهو الطرح الذي لاقى قبولاً لدي الكتل المسيحية. وإذا كان رئيس مجلس النواب زعيم حركة أمل الشيعية نبيه بري قد استطاع أن يجمع كل الكتل النيابية في اجتماع واحد ماعدا حزب الكتائب ،فإن ماحدث يعد تطورا إيجابيا قلما يحدث في لبنان، المنقسم مسيحيا وإسلاميا، وتعد هذه المرة الأولي التي يتفق فيها فريقا 8آذار و14آذار منذ إغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الملياردير رفيق الحريري في 2005،وهي المرة الأولي أيضا التي يتفق فيها صقرا المسيحيين الموارنة جعجع وعون، وهي المرة الأولي أيضا التي يتفق فيها تيار المستقبل السني وخصمه اللدود حزب الله،ولذلك انتجت جلستا تشريع الضرورة ماعجز عنه المجلس النيابي اللبناني لسنوات طويلة، بعدما ا ستشعر الجميع خطورة الوضع المالي، وقيمة صرف الليرة اللبنانية من ناحية،وكذلك تعطيل المجلس النيابي، والحكومة من ناحية أخري. ووسط هذا الجو التوافقي وشبه الإجماع من الجميع علي إعلاء مصلحة لبنان فوق مصلحة الطوائف،حدث التفجير الإنتحاري في الضاحية الجنوبية معقل الشيعة وحزب الله في لبنان، وكأن داعش تقول لمن توافقوا من السنة والشيعة والأطراف المسيحية :نحن قادرون علي إشعال الفتنة المذهبية عندكم بين عشية وضحاها، ولكن خاب ظن داعش وأعلن جميع زعماء الطوائف في لبنان تضامنهم مع الشيعة وإدانة كل محاولات إشعال الفتنة الطائفية والمذهبية التي قد تأتي علي الأخضر واليابس ويصعب السيطرة عليها. وبالرغم من نجاح تشريع الضرورة في كسر الجمود التشريعي في لبنان في ظل الشغور الرئاسي والتعطيل الحكومي،إلا أن الوضع الأمني بات علي المحك بعد التفجيرات الإنتحارية في الضاحية الجنوبية،والقبض علي العديد من المشاركين في الشبكة الإنتحارية التي كانت تعد أعضائها لتفجيرات متزامنة في مناطق شيعية أخري. وبالرغم من النجاح الذي حققته الكتل المسيحية بإقرار قانون إستعادة الجنسية في جلستي تشريع الضرورة، فإنها لاتزال تنتظر اللجنة المكلفة بإعداد قانون إنتخاب جديد يمنح المسيحيين حقوقهم التي يتهمون المسلمين بنهبها من خلال دعم المسيحيين المستقلين الذين لايمثلون إلا انفسهم في الشارع المسيحي، فهل تنجح اللجنة في إعداد قانون يتفق الجميع مسلمين – سنة وشيعة- وكذلك مسيحيين موارنة- جعجع وعون- علي محتواه ،ليتم إقراره ومن ثم يتم إنتخاب رئيس للجمهورية ،يعقبه إجراء انتخابات نيابية حسب القانون المنتظر؟