في الوثيقة الدستورية التي كتبها رسول الله صلي الله عليه وسلم سنة 10ه سنة 632م لنصاري نجران باليمن ولكل من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها, قريبها وبعيدها, فصيحها وأعجمها أي لجميع من يتدين بالنصرانية عبر الزمان والمكان.. جاء فيها نص علي دوام هذا العهد, إذ لا ينقض ولا يغير حتي تقوم الساعة إن شاء الله. وفي تفصيل حقوق المواطنة للرعية غير المسلمة, تجاوزت الوثيقة النص علي الحرية الدينية.. واحترام المقدسات من كنائس, وبيع, وبيوت الصلوات, ومواضع الرهبان, ومواطن السياح تجاوزت نطاق احترام مقدساتهم الدينية إلي حراسة هذه المقدسات, والدفاع عنها من قبل الدولة الإسلامية, كما تحمي وتدافع عن المسلمين ومقدساتهم.. فجاء في نص هذه الوثيقة علي لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم : وأن أحفظ أقاصيهم في ثغوري بخيلي ورجلي, وسلاحي وقوتي, بعيدا كان أو قريبا, سلما كان أو حربا, وأن أحمي جانبهم, وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم, ومواضع الرهبان, ومواطن السياح, حيث كانوا, من بر أو بحر, شرقا وغربا, بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الاسلام من ملتي. وأن أدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني.. وأن أكون من ورائهم, ذابا عنهم كل عدو يريدني وإياهم بسوء, بنفسي وأعواني وأتباعي وأهل ملتي.. ولذلك يجب علي رعايتهم وحفظهم من كل مكروه, ولا يصل ذلك إليهم حتي يصل إلي وأصحابي الذابين عن بيضة الإسلام معي. وفي تأكيد حقيقة أن الجزية وهي نظام قديم كان يدفعها كل المخالفين للحكام في الجنس أو الدين قد جاء الاسلام فجعلها بدلا من الجندية وحمل السلاح وخوض الحروب وليست بدلا من الايمان بالاسلام.. نصت هذه الوثيقة الدستورية علي إعفاء رجال الدين النصراني من الرهبان والأساقفة ومن عمل معهم اعفاءهم من الجزية.. فجاء في هذه الوثيقة: وأن لا يحمل الرهبان والأساقفة, ولا من تعبد منهم (من النصاري) أو لبس الصوف, أو توحد في الجبال والمواضع المعتزلة عن الأمصار (أي سكن الأديرة والمغارات) شيئا من الجزية أو الخراج.. ذلك أن الاسلام قد جعل الجزية مقصورة علي القادرين علي حمل السلاح, وعلي دفع دراهمها المعدودة, إذ أرادوا إعفاءهم في مقابلها من ضريبة الحرب والجندية والقتال.. ولذلك جاء في هذا العهد الدستوري: ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلي عدوهم, لملاقاة الحروب.. فإنه ليس علي أهل الذمة مباشرة القتال, وإنما أعطوا الذمة علي ألا يكلفوا ذلك. وأن يكون المسلمون ذبابا عنهم, وجوارا من دونهم. كما نصت هذه الوثيقة الدستورية علي إعفاء النصاري لقاء بدل الجندية من تكاليف القتال فجاء فيها: ولا يكرهوا علي تجهيز أحد من المسلمين إلي الحرب, بقوة أو سلاح أو خيل, إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم, فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به, حمد عليه, وعرف له, وكوفئ به. وفي التأكيد علي حقوق المواطنة, وعلي المساواة فيها بين الرعية المتعددة في الدين, وجبت هذه الوثيقة علي المسلمين نصرة غير المسلمين علي عدوهم وعدو المسلمين.. وعلي مشاركتهم في دفع المغارم.. وعلي التضامن معهم في الصلح بينهم وبين خصومهم فجاء فيها: وإن أجرم أحد من النصاري, أو جني جناية, فعلي المسلمين نصره, والمنع والذب عنه, والغرم عن جريرته, والدخول في الصلح بينه وبين من جني عليه.
وإذا كان دستور دولة المدينةالمنورة قد نص علي حقوق المواطنة بالنسبة للعرب الذين كانوا متدينين باليهودية..ثم جاء عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم لنصاري نجران كي يفصل هذه الحقوق ويعممها علي عموم المتدينين بالنصرانية.. فإن الخلافة الراشدة قد عممت المساواة في هذه الحقوق لتشمل, أبناء الديانات غير السماوية أيضا أي لتكون عامة في كل رعية الدولة فعندما فتحت فارس علي عهد عمر بن الخطاب.. رضي الله عنه عرض أمر الموقف من المجوس علي مجلس الشوري مجلس السبعين الذي كان يجتمع بمسجد النبوة, في مكان محدد وأوقات محددة وقال عمر لمجلس الشوري: نحن نعرف حكم اليهود والنصاري, فماذا عن حكم هؤلاء المجوس؟ فوثب عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: سنوا فيهم سنة, أهل الكتاب.. فعاملت الدولة الاسلامية, طوال تاريخها, أهل الديانات الوضعية المجوس, والزرادشت, والبوذيين, والهندوس معاملة أهل الكتاب التي قررت حقوقها وواجباتها هذه الوثائق الدستورية لكل مواطني الدولة الإسلامية.
وإذا كانت المواطنة وحقوقها قد عرفها الغرب علي أنقاض الدين, بعد انتصار العلمانية علي الكنيسة الغربية, ولذلك جاءت مواطنة علمانية, فإن الاسلام هو الذي أنشأ المواطنة, وشريعته الإلهية هي التي قررت وقننت حقوقها, وبذلك ضمنت القداسة لهذه الحقوق, حتي لا تكون منحة يسمح بها حاكم ويمنعها آخرون.. وبعبارة رسول الله صلي الله عليه وسلم : فمن خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله فهو عند الله من الكاذبين.. فالضامن لكامل حقوق المواطنة هي المرجعية الإسلامية والشريعة الإلهية, ولذلك نص دستور دولة المدينةالمنورة علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أنه ماكان من أهل هذه الصحيفة ( أي الدستور) من حدث أو اشتجار يخاف فساده, فإن مرده إلي الله وإلي محمد رسول الله.
وإذا كانت حقوق المواطنة في النموذج الحضاري الغربي وقفت عند الإنسان الغربي دون سواه.. بل إن الثورة الفرنسية. قد حرمت النساء, والأولاد, وفاقدي العقل, والمحكومين بعقوبات بدنية شائنة, من حقوق المواطنة.. فإن الاسلام قد قدس كل حقوق المواطنة لمطلق بني آدم, الذين لهم التكريم الإلهي بحكم الخلق (ولقد كرمنا بني آدم).. وصنع ذلك منذ قبل أربعة عشر قرنا.. فهل نعي موروثنا الحضاري في المواطنة, بدلا من التبعية العمياء للوافد من لدن الآخرين؟! المزيد من مقالات د. محمد عمارة