المواطنة: مفاعلة أي تفاعل بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه, وهي علاقة تفاعل, لأنها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات, فلابد لقيام المواطنة أن يكون انتماء الإنسان المواطن وولاؤه كاملين للوطن, يحترم هويته ويؤمن بها وينتمي إليها ويدافع عنها, بكل ما في عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة, والأرض التي تمثل وعاء الهوية والمواطنين. وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن, وكما أن للوطن هذه الحقوق علي المواطن, فإن لهذا المواطن علي وطنه وشعبه وأمته حقوقا كذلك, من أهمها المساواة في تكافؤ الفرص, وانتفاء التمييز في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب اللون أو الطبقة أو الاعتقاد, مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعل الأمة والشعب جسدا واحدا. وإذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 ميلادية بسبب التمييز علي أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت وعلي اساس العرق بسبب الحروب القومية وعلي أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء وعلي أساس اللون بسبب التمييز ضد الملونين, فإن المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات قد اقترنت بالإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية الأولي في المدينةالمنورة علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فالإنسان في الرؤية الإسلامية هو مطلق الإنسان والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم, والخطاب القرآني موجه أساسا إلي عموم الناس, ومعايير التفاضل هي التقوي المفتوحة أبوابها امام الجميع, ولقد وضعت الدولة الإسلامية فلسفة المواطنة في الممارسة والتطبيق وقننتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولي لقيام هذه الدولة في السنة الأولي للهجرة.. ففي أول دستور لهذه الدولة تأسست الأمة علي التعددية الدينية, وجاء النص علي أن لرعية هذه الدولة من اليهود النصر والأسوة مع البر وأنهم ينفقون مع المؤمنين المسلمين ماداموا محاربين, علي اليهود نفقتهم وعلي المؤمنين نفقتهم وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذا الدستور وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم هكذا تأسست المواطنة الكاملة بالإسلام في الدولة الإسلامية الأولي عندما جمعت الأمة أهل الديانات المتعددة علي قدم المساواة لأول مرة في التاريخ وذلك بعد أن كانت حقوق المواطنة في اثينا اليونانية وفي الامبراطورية الرومانية وقفا علي قلة من الرجال الفرسان الاحرار الملاك, وما عدا هذه القلة كانوا عبيدا وبرابرة لاحظ لهم في حق من حقوق المواطنة. وعندما دخل النصاري مع اليهود في إطار رعية الدولة الإسلامية قرر لهم العهد الدستوري الذي كتبه رسول الله صلي الله عليه وسلم لنصاري نجران باليمن ولكل من يتدين بالنصرانية عبر الزمان والمكان أن لهم جوار الله وذمة رسوله علي أموالهم وأنفسهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت ايديهم أن أحمي جانبهم وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا مما احفظ به نفسي وخاصتي واهل الإسلام من ملتي, لاني اعطيتهم عهد الله علي أن لهم ما للمسلمين وعليهم وما علي المسلمين, وعلي المسلمين وماعليهم للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم.
وعندما أباح الإسلام زواج المسلم بالكتابية اليهودية والنصرانية أسس ذلك علي شرط احترام عقيدتها الدينية احتراما كاملا ونص العهد الدستوري علي أنهم لا يحملون من النكاح الزواج شططا لا يريدونه ولا يكره أهل البنت علي تزويج المسلمين لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم إن احبوه ورضوا به وإذا صارت النصرانية زوجة عند المسلم فعليه أن يرضي بنصرانيتها ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها, والأخذ بمعالم دينها ولا يمنعها ذلك فمن خالف ذلك, وأكرهها علي شيء من أمر دينه فقد خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله وهو عند الله من الكاذبين.
وفي احترام المقدسات والحقوق في دور العبادة نص العهد النبوي علي أن لهم ان احتاجوا في مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم إلي مساعدة من المسلمين وتقوية لهم علي مرمتها أن يساعدوا علي ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك دينا عليهم بل تقوية لهم علي مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله لهم ومنة الله ورسوله عليهم. وفي المساواة بين المواطنين بالحقوق والواجبات الاقتصادية والمالية جاء النص علي أنه لا يجار عليهم ولا يحملون إلا قدر طاقتهم وقوتهم علي عمل الأرض وعمارتها واقبال ثمرتها ولايكلفون شططا ولايتجاوز بهم اصحاب الخراج من نظرائهم.. ذلك أن الإسلام لم يقف في حقوق المواطنة عند الجوانب السياسية والمعنوية فقط وإنما جعل للمواطنة مضمونا اجتماعيا واقتصاديا يتحقق به العائد من الوطن علي المواطن وقبل أن تعرف الدنيا هذه الآفاق السامية للمواطنة قرر الفكر الاجتماعي للإسلام أن الغني في الغربة وطن وأن الفقر في الوطن غربة وأن المقل غريب في بلدته كما جعل الأمة بل دياناتها كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر وأن ذمة الله تبرأ من الأمة إذا بات فيها امرؤ جائع وهم يعلمون! وفي مقابل التمتع المتساوي لكل المواطنين بكل هذه الحقوق للمواطنة أوجب الإسلام علي جميع المواطنين أن يمنحوا ولاءهم الكامل وانتماءهم الخالص للوطن الذي يعيشون فيه.. فلا يكون أحد من رعية هذا الوطن عينا لأحد من الأعداء المحاربين للمسلمين ولا معاونا لأهل الحرب علي المسلمين بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم وأن يكتموا اسرار المسلمين ولا يظهروا العدو علي عوراتهم.
كذلك قررت مواثيق المساواة في حقوق المواطنة كامل الحرية الدينية فنصت علي أنه لا يجبر أحد ممن كان علي ملة النصرانية كرها علي الإسلام ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذي المكروه حيث كانوا واين كانوا من البلاد لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين وعلي المسلمين ما عليهم حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم. المزيد من مقالات د. محمد عمارة