بمجرد أن انفتحت أبواب القطار في محطة مترو «شومان» فوجئ عشرات الركاب الذين يتأهبون للنزول في الحى الراقي بعناصر من قوات الجيش تلوح ببنادقها الرشاشة وهى تقف بحالة من الاستنفار والتوتر على أرصفة المحطة الضخمة مما جعل الركاب يخفضون من أبصارهم و يمضون بطريقهم سريعا نحو سلم الخروج الكهربائي. كان المشهد استثنائيا بامتياز ولكنه كان مناسبة جيدة كى يدرك المواطن الذي اعتاد الشعور بالأمان المطلق أن سلامته الشخصية أصبحت على المحك وأن هجمات الجمعة الدامية في باريس لن تغير فرنسا فقط والى الأبد ولكن من الواضح أن رذاذ التغيير سيطول أوروبا كلها، وبالذات بلجيكا التى تربطها بفرنسا قواسم مشتركة منها الحدود الكبيرة واللغة الرسمية والأهم تحول العاصمة بروكسل في السنوات الأخيرة إلى ملاذ آمن يضم العديد من الخلايا الارهابية، النائم منها والنشط، تتخذ من الاراضي البلجيكية قاعدة للاختباء والتجهيز اللوجستى والدعم المالى! نزول الجيش الى الشارع جاء استجابة مباشرة لرفع مستوى التهديد الى المستوى «الثالث» على مقياس من أربعة مستويات مما يعنى أن مملكة بلجيكا لم يعد يفصلها سوى مستوى واحد فقط لتصل الى أقصى مستويات الخطر حسب الوكالة الوطنية لتنسيق مستوى التهديد «أوكام»، ورغم تكتم السلطات على العدد الحقيقي للعناصر التى نزلت الى الشارع، فإن صحيفة «لا ليبر بلجيك» تؤكد أن عددها لا يقل عن 520 عنصرا كمرحلة اولى قد يتبعها نزول مئات - وربما آلاف - العناصر لاحقا حسب تطورات الأحداث، وإذا علمنا أن تعداد القوات العاملة بالجيش البلجيكي لا يتجاوز 22 ألف مقاتل لتبينت لنا دلالة نزول المئات كمرحلة أولى. وأمام حملة الانتقادات الدولية التى واجهتها أجهزة الأمن والمخابرات البلجيكية باعتبارها فشلت في ملاحقة ورصد العناصر الإرهابية، ألقى شارل ميشيل رئيس الوزراء البلجيكي خطابا ناريا أمام البرلمان رفض فيه تلك الانتقادات ووجه الشكر لقيادات الاجهزة والمحققين والقضاة على شجاعتهم وتفانيهم، لكنه في الوقت نفسه أعلن عن حزمة من الاجراءات والتدابير الاستثنائية لاحكام السيطرة الامنية في البلاد. الكارثة التى استيقظ عليها المواطنون البلجيك صباح اليوم التالى لهجمات باريس هى أن عاصمتهم تعد «محطة ترانزيت» أساسية في أي عملية ارهابية بأوروبا ترفع كذبا وزورا شعارات الاسلام، وبالتالى أصبحت مشاعر الشك والخوف تنتاب المواطنين تجاه كل من يحمل ملامح عربية او ينحدر من أصول مغربية! وإذا كان من الطبيعى أن تعلن أجهزة الشرطة - الفيدرالية و المحلية - حالة الاستنفار في صفوفها بعد تقارير أكدت ان منفذي الهجوم في فرنسا كانوا في بروكسل، فإن المخيف والجديد هو سماع أصوات اطلاق النار معظم الاوقات واطلاق صافرات عربات الاسعاف نتيجة حملات المداهمات التى لا تكاد تتوقف بمختلف أحياء العاصمة بحثا عن مشتبه بهم على صلة بمنفذى الهجوم، وليس غريبا أن تتركز حملة الدهم والاعتقال في حي مولنبيك المتهم بأنه «معقل التطرف الاسلامى» في بلجيكا حيث تقطنه أغلبية ساحقة من المهاجرين العرب. وكان صادما أن أحد أشهر مقدمى البرامج الاذاعية بباريس دعا مقاتلات الرافال الفرنسية الى قصف مولنبيك باعتباره يمثل الخطر القريب، بدلا من أن تضيع وقتها في قصف الرقة - معقل تنظيم داعش الارهابي بسوريا - باعتبارها الخطر البعيد! مصادر بالجالية المغربية أكدت ل «الأهرام» صحة التقارير التى تتحدث عن مغادرة مئات المغاربة لحي مولنبيك، إما لأحياء أو مدن اخرى أو لبلد آخر غير بلجيكا بعد استهدافهم بحملة المداهمات لاستجواب أقارب وأصدقاء بلال حدفي وعبد الحميد أبا عود وإبراهيم عبد السلام وغيرهم من منفذي ومخططي هجمات باريس ممن يعيشون في بلجيكا. الحكومة الفيدرالية أعلنت من جانبها عن عدد من الاجراءات والتدابير الامنية في عموم بلجيكا بشكل عام وفي العاصمة بشكل خاص، وتشمل هذه الاجراءات، فضلا على الدفع بأكثر من 500 من عناصر الجيش لمساعدة الشرطة في حماية المؤسسات الحساسة في وسط بروكسل، وإنشاء بنك معلومات حول المقاتلين البلجيك المنخرطين في صفوف تنظيم داعش الارهابي. وحسب صحيفة «دى تخد» فإن بنك المعلومات البلجيكي يشمل تصنيف خطر «المقاتلين الإرهابيين» إلى تسع فئات، منهم من تمكنوا بالفعل من السفر إلى معاقل داعش في سوريا ومن عادوا من هناك الى بلجيكا ومن فشلوا في مغادرة البلاد الى سوريا، وهكذا.