"لقد عدنا" .. كانت هذه هى أولى كلمات جاستين ترودو رئيس الحزب الليبرالى الكندى بعد إعلان فوزه فى الانتخابات العامة، لينهى بذلك فترة حكم حزب المحافظين اليمينى التى استمرت تسع سنوات برئاسة ستيفن هاربر. جاء ترودو إلى الحكم فى بلاده حاملا شعار التغيير"، وتعهد بتشكيل حكومة جديدة قوية قادرة على تحقيق سياسات خارجية أكثر انفتاحا على العالم، وتنهى حالة التهميش التى فرضتها الحكومة السابقة على بلاده. ومن بين أهم الأسباب التى أدت إلى نجاح ترودو فى الانتخابات، ومطالبة الشعب الكندى له بالتغيير والتمرد على حكومة هاربر، هو إصرار المحافظين الدائم على تقليص دور كندا الخارجي, فسياستهم لا تعترف بالحيادية, وكان عليهم أن يتخذوا مواقف أكثر مرونة للتفاهم مع شركاء مختلفين على الساحة الدولية. ولم تفشل سياسة المحافظين خارجيا فقط، بل فشلت داخليا أيضا، فنجد أن الروابط بين المقاطعات والحكومة الفيدرالية تفككت فى عهد هاربر، ويرجع ذلك لعدم مشاركته فى الاجتماعات بين الحكومة الفيدرالية ورؤساء المقاطعات، باعتبار أن الدستور الكندى ينص على أن كل رئيس مقاطعة عليه أن يدير مشاكله الخاصة به. وعلى الرغم من تهكم العديد من خصوم ترودو السياسيين عليه خلال الحملة التى سبقت الانتخابات الأخيرة، باعتباره مجرد "فتى وسيم" يفتقر إلى الخبرة و"غير مستعد" لتسلم دفة الحكم، فإنه نجح فى اقناع الناخبين بقدرته "فى إحداث تغيير حقيقي" فى البلاد، فحصل الحزب الليبرالى الذى يتزعمه ترودو على 184 مقعدا، وهو ما يتجاوز بفارق مريح ال170 مقعدا اللازمة للفوز بالأغلبية، بينما نال المحافظون 99 مقعدا، ليكونوا بذلك فى المرتبة الثانية بعد أن ظلوا مسيطرين على الحكم لأكثر من تسع سنوات بقيادة هاربر، والذى أخذ عليه تقليص دور كندا السياسى الخارجي، بينما حل الحزب الديمقراطى الجديد - الذى كان من المتوقع أن يتحدى الهيمنة التقليدية للمحافظين والليبراليين - فى المركز الثالث بحصوله على 44 مقعدا، وهو ما يقل عن نصف المقاعد التى فاز بها فى انتخابات عام 2011. ويؤكد ترودو الذى أحدث حالة من الجدل فور انتخابه أن الحكومة الجديدة ستخرج من عباءة الولاياتالمتحدة، ولن تدعم الانضمام إلى القصف ضد تنظيم "داعش" الارهابى فى العراق وسوريا، وأبلغ ذلك بوضوح الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال أول اتصال هاتفى بينهما، كما أكد ترودو فى العديد من تصريحاته خلال حملاته الانتخابية على أن كندا سوف تلعب دور شريك عالمى سخى فى ملف اللاجئين، حيث وعد حزبه بقبول 25 ألف لاجيء بحلول يناير 2016، كما وعد بتخصيص أموال أكثر لتسريع عملية طلب اللجوء. وعلى الرغم من اتهامه بالغموض والخطاب الخاوي، فقد ركز ترودو رئيس الوزراء المنتخب خلال حملته على أهمية إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادى لبلاده، حيث يتبنى خطة بناء خط أنابيب "كى ستون إكس إل" القادر على نقل 830 ألف برميل بترول يومياً من مقاطعة ألبيرتا غرب كندا إلى المصافى الأمريكية، ومن ثم سيكون المنافس الأكيد لواردات الولاياتالمتحدة البترولية من الدول المصدرة للبترول، مثل السعودية والكويت والعراق وفنزويلا. وداخليا، يعتبر ترودو أن مصالح الطبقة الوسطى لها الأولوية، ويظهر ذلك فى دعمه لخطة زيادة الضرائب المفروضة على الكنديين الذين يتجاوز دخلهم200 ألف دولار سنويا، وخفضها بالنسبة لأفراد الطبقة الوسطى. ويشار إلى أن ترودو هو الابن الأكبر لرئيس الحكومة الأسبق بيير إليوت ترودو أكثر سياسيى كندا حضوراً وتميزاً والذى تولى منصبه فى الفترة ما بين 1968 إلى 1984، أى حوالى 15 عاماً. ومن الطريف أنه عندما كان ترودو يبلغ من العمر أربعة أشهر فقط، توقع ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت بأن ترودو الصغير سيسلك يوما ما طريق والده، ففى حفل عشاء رسمى أقيم فى أوتاوا أثناء زيارة نيكسون لكندا عام 1972، قال الضيف الأمريكى لترودو الأب "لنتخلى عن الرسميات هذه الليلة، ودعونا نشرب نخب رئيس الحكومة الكندية فى المستقبل، جاستين ترودو"، ورد رئيس الحكومة ترودو الأب بالقول "إذا حصل ذلك، آمل أن يتحلى جاستين بترفع وحنكة الرؤساء." وفيما عاش جاستين الكثير من طفولته تحت مجهر الإعلام بدأ تدريجيا بالابتعاد عن عالم السياسة، فقد درس فى جامعتى مكجيل وكولومبيا البريطانية وحصل على شهادة فى التعليم وعمل مدرسا، وعندما توفى والده عن عمر ناهز 84 عاما، ألقى ترودو كلمة الرثاء فى جنازته التى بثت وقائعها تليفزيونيا، ونالت الكلمة مديحا على نطاق واسع، وأدت بالكثيرين إلى النظر إليه باعتباره مؤهلا للحكم للمرة الاولى. وبدأ ترودو نشاطه السياسى الحقيقى عقب وفاة والده، فقد فاز بترشيح الحزب الليبرالى فى دائرة بابينو عام 2007، ثم أصبح نائبا فى البرلمان فى عام 2008، وفى تلك المراحل، رأى فيه كثيرون زعيما مستقبليا للحزب، وقد أعيد انتخابه نائبا عام 2011، وبعد اعتذاره مرات عديدة عن الترشح لزعامة الحزب الليبرالي، أعلن ترودو عام 2012 نيته للترشح، وخلال الحملة الانتخابية، اتهمه خصومه بالافتقار للخبرة والمواقف السياسية الواضحة ولكنه حقق فوزا ساحقا بزعامة الحزب الليبرالى عام 2013. فهل ستنجح عائلة ترودو فى إعادة كندا للساحة الدولية والخروج من عباءة واشنطن؟ أم أن وهج جاذبية ووسامة ترودو سيهدأ سريعا، مثلما حدث مع أوباما حامل شعار التغيير أيضا فى بلاده.