نتحدث كثيراً الآن فى الجامعات وتنفق الأموال وتبذل الجهود من أجل تحقيق «الجودة» ,جودة العملية التعليمية ومخرجاتها، حرصا على أن تحصل الجامعات المصرية على موقع متميز بين الجامعات فى إطار التنافسية العالمية , فالجامعة مؤسسة عالمية علمانية تشتغل بالعلم القابل للشك والإضافة والتجديد المستمر. والحق أنه قد آن الأوان كى نؤكد أن الجودة ليست مجرد عملية تنظيم أوراق وتوثيق لما يدور فى الأقسام والكليات بالجامعات المختلفة من انشطة وإجرءات وما يرتبط بهذا، فالجودة . من وجهة النظر هنا،عملية انسانية متكاملة العناصر ذلك أنها ذات طبيعة اخلاقية أكاديمية تؤدى الى نجاح الجامعة فى رسالتها ونجاح الطالب فى تحقيق اهدافه من الالتحاق بالجامعة، فعلاقة الطالب مع استاذه تعتبر ركيزة اساسية للعملية التعليمية الجيدة. فمن المطلوب إذن أن تكون هذه العلاقة علاقة داعمة للطالب تقوم على الرعاية والاحترام، وتحقق له الأمن والاستقلال . أى أن العلاقة بين الطالب والاستاذ هى اولا وأساسا علاقة إنسانية ذات طبيعة مهنية بكل ملامحها الأكاديمية. ولعل هذا يؤدى بنا الى الحديث عما يدور الآن من جدل حول «النقاب» , وهل كان ما قرره رئيس جامعة القاهرة أمرا مطلوبا حرصا على أداء العمل وجودة العملية التعليمية بالجامعة، أم أنها كما يقول البعض «حرية شخصية» لعضو هيئة التدريس ولا ينبغى التدخل فيها أو كما أغرق البعض فى القول إنها ترقى الى حد الفريضة وبالتالى لا ينبغى النهى عنها !. ومن منظور مهنى يمكن القول إن هذه القضية لا مجال لإثارتها أساسا فى الجامعة , ذلك أنه من الواجب على كل من يتحمل أمانة مهنة ما أن يلتزم بأخلاقياتها , فالمدرسة والممرضة والطبيبة وعضو هيئة التدريس بالجامعة وغيرهن ممن يتصدين لأداء مهنة ونكرر ذات طبيعة إنسانية تعتمد على التشاركية والفهم المتبادل والحاجة للإقناع والثقة والاحترام، لابد وأن تضع فى الاعتبارها الإنسان فى الطرف الآخر للعلاقة المهنية ( وخاصة ذات الأجر)، والسؤال بناء على هذا , كيف تتعامل عضو هيئة التدريس على أنها عوره أو لابد أن تخفى ملامحها عمن أوكل إليها تعليمه عفة وفضلا !. وإذا كانت مهنة التعليم هى مهنة الأنبياء والرسل حيث كاد المعلم يكون رسولا كما قال الشاعر , فكيف لا يجوز للمتعلم أن يعرف من يتلقى العلم من أستاذه بلا ملامح وان كان يسمعها ؟ وهل هى عدم الثقة فى ضميره أو الخوف منه أو الاستخفاف به أم ماذا ؟. اسئلة كثيرة تتوالى تقودنا دوما الى اللامعقول أكاديميا ومهنيا !!. ومن المفيد هنا أن نشير الى الحكم القضائى الذى أصدره الراحل عوض المر عام 1996 من عدم إجازة ارتداء النقاب أثناء العملية التعليمية لأسباب كثيرة ذكرت فى حيثيات الحكم، ان الخلط الشديد فى التعامل مع أمور شديدة الوضوح ، أو ينبغى أن تكون كذلك أمر لا يثير إلا البلبلة والشقاق , فتلقى العلم يتطلب العلانية ويتطلب بصيغته الجامعية المباشرة بألايكون من وراء ساتر إذلابد أن يأنس الطالب الى أستاذه الذى يعلمه , يعرفه ويطمئن اليه فكيف تتم عملية التعلم من طرف مجهول الملامح يقذف بالمعلومات أو يلقيها على اعتبار أنها أداء واجب، دون أن يكون بينه وبين المستمع له معرفة تؤدى الى الثقة المتبادلة والشعور بالامان والحرص على تكرار اللقاء والحضور لمجلسه بدلا من الاكتفاء بقراءة المذكرات المبتسرة. وفى حالة التدريس تحديدا لابد من تأكيد أن عملية التواصل بين أطراف العملية التعليمية عملية أساسية وعلاقة متبادلة وليس مجرد عملية توصيل للمعلومات أو اتصال مع من لا ملامح إنسانية مميزة له، وقد يرى البعض أن من صيغ التعليم الجامعى المعاصر التعليم من بعد وحتى هذا اتجه المتخصصون الى القول بأن يكون مختلطا , أى يجمع بين بعد المسافة وأيضا فترات للتعليم المباشر عن قرب لأهمية العلاقة الإنسانية فى العملية التعليمية. ومع كل هذا وبالرجوع الى التاريخ .... تاريخ التعليم العالى فى الحضارة الانسانية ، نجد أن أروع ما كان يميز العملية التعليمية فى المساجد الكبرى منذ صدر الإسلام وعلى امتداد تاريخه هو العلانية ومعرفة المتعلم عمن يأخذ العلم .. فالطالب هو الذى يختار من سيتلقى على يديه العلم , أى أن الطالب فى هذه الحالة يعرف أستاذه معرفة مباشرة والاستاذ أيضا من حقه أن يقبله أولا يقبله كى يتلقى العلم منه. إن أخلاقيات وتقاليد المهنة تحتم على من يتصدى للتدريس فى الجامعة أن يكون أهلا لتحمل شرف أمانتها، وان يتحمل أيضا ميثاقها الأخلاقى , حتى ولو كان غير مكتوب . فالتقاليد الجامعية ارتضت التعامل بوضوح وعلانية مع الطلاب دون إخفاء أو تمويه. وأرجو ألاننسى ما جاء فى الأثر من أن »العلم رحم بين أهله« فكيف يمكن أن نهدر هذه القيم الرائعة والتخفى وراء نقاب. لمزيد من مقالات د. نادية جمال الدين