سعر جرام الذهب يتراجع 110 جنيهات.. كم بلغت خسائر المعدن الأصفر في شهر؟    حماس: إذا أقدم الاحتلال على الحرب في رفح سندافع عن شعبنا    القاهرة الإخبارية: تعرض رجل أعمال كندي يقيم بالبلاد لحادث إطلاق نار في الإسكندرية    عزت إبراهيم: تصفية الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة عملية مخطط لها    مفيد شهاب: ما قامت به إسرائيل يخالف اتفاقية السلام وتهديد غير مباشر باستخدام القوة    عودة الروح للملاعب.. شوبير معلقًا على زيادة أعداد الجماهير بالمباريات    عاجل.. أول رد من صالح جمعة على إيقافه 6 أشهر    مكاسب الأهلي من الفوز على الاتحاد السكندري في الدوري المصري    حالة الطقس الأيام المقبلة.. الأرصاد تحذر من ظاهرة جوية على القاهرة وسيناء    ياسمين عبدالعزيز ل«صاحبة السعادة»: لا أفرق في الحب بين أبنائي    توقعات الأبراج حظك اليوم الأربعاء 8 مايو.. «هدايا للثور والحب في طريق السرطان»    حسن الرداد: لو حد ضايقني هضايقه ومش هنام مظلوم    تليجراف: سحب لقاح أسترازينيكا لطرح منتجات محدثة تستهدف السلالات الجديدة    البيضاء تعود للارتفاع.. أسعار الدواجن والبيض اليوم 8 مايو 2024 بالبورصة والأسواق    نائب رئيس المصري: مش هنفرط في بالمشاركة الإفريقية    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    الأونروا: مصممون على البقاء في غزة رغم الأوضاع الكارثية    بالمفتاح المصطنع.. محاكمة تشكيل عصابي تخصص في سرقة السيارات    تسلا تنهار.. انخفاض مبيعات سياراتها بنسبة 30% في إبريل    نشرة التوك شو| تغيير نظام قطع الكهرباء.. وتفاصيل قانون التصالح على مخالفات البناء الجديد    واشنطن: القوات المسلحة المصرية محترفة ومسئولة ونثق في تعاملها مع الموقف    إسعاد يونس تقرر عرض فيلم زهايمر ل الزعيم في السينمات المصرية... اعرف السبب    موعد عيد الأضحى 2024.. وإجازة 9 أيام للموظفين    الأردن وأمريكا تبحثان جهود وقف النار بغزة والهجوم الإسرائيلي على رفح    ياسمين عبد العزيز: محنة المرض التي تعرضت لها جعلتني أتقرب لله    شاهد.. ياسمين عبدالعزيز وإسعاد يونس تأكلان «فسيخ وبصل أخضر وحلة محشي»    ندوة "تحديات سوق العمل" تكشف عن انخفاض معدل البطالة منذ عام 2017    ماذا يحدث لجسمك عند تناول الجمبرى؟.. فوائد مذهلة    5 فئات محظورة من تناول البامية رغم فوائدها.. هل انت منهم؟    متحدث الزمالك: هناك مفاجآت كارثية في ملف بوطيب.. ولا يمكننا الصمت على الأخطاء التحكيمية المتكررة    تحت أي مسمى.. «أوقاف الإسكندرية» تحذر من الدعوة لجمع تبرعات على منابر المساجد    «العمل»: تمكين المرأة أهم خطط الوزارة في «الجمهورية الجديدة»    مغامرة مجنونة.. ضياء رشوان: إسرائيل لن تكون حمقاء لإضاعة 46 سنة سلام مع مصر    الداخلية تصدر بيانا بشأن مقتل أجنبي في الإسكندرية    رئيس البورصة السابق: الاستثمار الأجنبي المباشر يتعلق بتنفيذ مشروعات في مصر    قبل مواجهة الزمالك.. نهضة بركان يهزم التطواني بثلاثية في الدوري المغربي    رئيس جامعة الإسكندرية يشهد الندوة التثقيفية عن الأمن القومي    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    معجبة بتفاصيله.. سلمى الشماع تشيد بمسلسل "الحشاشين"    «خيمة رفيدة».. أول مستشفى ميداني في الإسلام    موقع «نيوز لوك» يسلط الضوء على دور إبراهيم العرجاني وأبناء سيناء في دحر الإرهاب    عاجل - "بين استقرار وتراجع" تحديث أسعار الدواجن.. بكم الفراخ والبيض اليوم؟    فوز توجيه الصحافة بقنا بالمركز الرابع جمهورياً في "معرض صحف التربية الخاصة"    بعد تصريح ياسمين عبد العزيز عن أكياس الرحم.. تعرف على أسبابها وأعراضها    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالعمرانية    اليوم.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي القعدة لعام 1445 هجرية    أختار أمي ولا زوجي؟.. أسامة الحديدي: المقارنات تفسد العلاقات    ما هي كفارة اليمين الغموس؟.. دار الإفتاء تكشف    دعاء في جوف الليل: اللهم امنحني من سَعة القلب وإشراق الروح وقوة النفس    صدمه قطار.. إصابة شخص ونقله للمستشفى بالدقهلية    دار الإفتاء تستطلع اليوم هلال شهر ذى القعدة لعام 1445 هجريًا    وفد قومي حقوق الإنسان يشارك في الاجتماع السنوي المؤسسات الوطنية بالأمم المتحدة    عزت إبراهيم: الجماعات اليهودية وسعت نفوذها قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي    طريقة عمل تشيز كيك البنجر والشوكولاتة في البيت.. خلي أولادك يفرحوا    الابتزاز الإلكتروني.. جريمة منفرة مجتمعيًا وعقوبتها المؤبد .. بعد تهديد دكتورة جامعية لزميلتها بصورة خاصة.. مطالبات بتغليظ العقوبة    إجازة عيد الأضحى| رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى المبارك 2024    القيادة المركزية الأمريكية والمارينز ينضمان إلى قوات خليجية في المناورات العسكرية البحرية "الغضب العارم 24"    ضمن مشروعات حياة كريمة.. محافظ قنا يفتتح وحدتى طب الاسرة بالقبيبة والكوم الأحمر بفرشوط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إصلاح التعليم فى مصر
داء التعليم ودواؤه

هذه الكلمات القليلة البسيطة، والتى لو جُمعت كلمات الدنيا وقتها لما ساوتها قيمة عند صاحبنا، والتى حفظها عن ظهر قلب، رغم مرور ما يقرب من ست وستين عاما عليها، فضلا عن الاحتفاظ بكراسة الإنشاء نفسها، كان لها أقوى تأثير على مسيرة حياته !
ومن المؤكد أن هذا الموقف الذى وقفه هذا المعلم النبيل، من تلميذنا، لم يكن فريدا، فهناك كثيرون آخرون، يتذكرون أن هذا المعلم أو ذاك كان هو المهماز الأول والأساسى الذى جعله يتجه هذا الاتجاه أو ذاك. وهناك العكس أيضا، فهناك من تركوا المدرسة، هربا من عنف مدرس، أو سُد الطريق بينه وبين هذا الفرع المعفى أو ذاك بسبب مدرس.
والنتيجة- على المستوى العملى التطبيقى- برز المعلم فى حياة ملايين من الناس، قطب رحى، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
وهذا الواقع المعيش عبر عقود ممتدة من التاريخ، أيدته مئات البحوث والدراسات فى العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية لتنتهى إلى حقيقة مؤداها أن المعلم هو " العمود الفقرى" فى عملية التنشئة والتكوين والتربية، وخاصة فى مراحل العمر المبكرة، والتى هى سنوات التكوين وفترة التأسيس، التى تكاد توجه ما يأتى بعد ذلك من سنوات وخبرات.
وأشارت تلك التجارب والدراسات والبحوث إلى أنك يمكن أن تصل إلى أفضل النظم التربوية، وأبهج الكتب المدرسية، وأحكم المناهج والمقررات، ثم يأتى معلم سيئ التكوين، خبيث الطوية، ضحل المعرفة، ضيق الأفق، لينسف كل هذا، حتى لقد استعار علماء التربية وخبراء التعليم المقولة الشائعة فى عالم القضاء القائلة: قانون ظالم مع قاض عادل، خير من قانون عادل مع قاض ظالم، حيث يظل الإنسان هو «الموَصّل» و «المفسر»، والمطبق، فأصبح أخصائيو التعليم يقولون أيضا: مناهج وكتب غير جيدة، فى يد معلم متمكن، واسع الصدر، رحب الأفق، فلسفته التربوية " يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا"..
وإذ يكون هذا تأكيد على خطورة ما يكون عليه المعلم، تصبح عملية صناعته هى مناط مسيرة التعليم، سلبا أو إيجابا، وعملية صناعة المعلم وتكوينه وتنشئته، منوط بها فى الوقت الحاضر "كليات التربية"، حتى لقد أطلق الراحل الدكتور أحمد عبادة سرحان أستاذ الإحصاء بجامعة القاهرة عبارته الشهيرة فى المجلس القومى للتعليم والبحث العلمى، منذ الثمانينيات : إن " كليات التربية هى داء التعليم فى مصر ودواؤه"، قاصدا بذلك أنك لو فتشت فى تشوهات التعليم وصور الخلل فيه، فسوف تجد أن الكم الأكبر المسئول عن ذلك يكمن فى كليات التربية بحكم صناعتها لآلاف من المعلمين الذين اتسموا بهشاشة التكوين، فأخذوا يبثون سوءا فى مدارس الوطن، عبر ملايين من أبنائنا، ومن ثم فإن أردنا أن نضع أقدامنا على الطريق الاستراتيجى المستقيم فى البدء بتصحيح مسار التعليم والنهوض به، علينا أن نشمر عن سواعدنا للتفكير فى كيفية تخليص كليات التربية من تشوهات، حتى يستقيم أمر المعلم، فنضع التعليم فى مصر بالتالى على أول طريق النهوض والتقدم.
السمعة المغايرة:
لكن لابد من الاعتراف بأنه رغم الأشعار التي قيلت تبجيلا للمعلم وتقديرا، إلى الدرجة التى كاد عندها يرفعه الشاعر أحمد شوقى أن إلى مصاف الرسل، فقال هذا البيت الذى نحفظه جميعا على وجه التقريب: ( قم للمعلم وفه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا )، إلا أن الواقع الاجتماعى لم يعتبر مهنة المعلم من تلك المهن رفيعة المستوى، عالية الشأن.
ولعل الأديب البارع نجيب محفوظ في الجزء الثانى " قصر الشوق " ، من ثلايته الشهيرة، يظهرنا على ما كانت عليه مكانة المعلم إبان العقد الثانى من القرن الماضى ...
اضطراب صناعة المعلمين:
وإذا كان هذا أمر المعلم، مما يوجب علينا أن ننظر بمسئولية أضخم إلى تلك المؤسسة التى يقع على عاتقها تكوين هذا المعلم وتنشئته، أو بمعنى جامع " تصنيعه "، وهى كليات التربية، إلا أننا يجب أن نسلك طريق الأطباء فى دقة التشخيص، عندما يتوقفون بعض الشئ عن " المعطيات السابقة للحالة المرضية "..
وهنا سوف نجد أن طريق قيام هذه الصناعة الإنسانية الثقيلة، كان طويلا ومضطربا، وأحيانا : عشوائيا، كيف؟
فقد كان الشائع أن من علِم علما، يمكن له أن يُعَلِّمه للآخرين..
ثم أبرز التقدم العلمى المذهل فى علم النفس حقيقة مهمة، وفارقة فى المسار..
فعندما نقول- مثلا- أن محمدا قد علّم عليا الفيزياءَ، فإن هذه العبارة تتضمن عدة أطراف:
• تلميذا، وهو " على"، 2- مادة علمية هى "الفيزياء "، 4- عملية تعليم قام بها المعلم، - 5- عملية تعلم، قام بها التلميذ..
ومن ثم فلا ينبغى أن يقتصر المعلم، وهو محمد، على معرفة " الفيزياء"، بل لابد من معرفة : شخصية المتعلم- عملية التعليم- عملية التعلم، وهو ما يتضمن جملة العلوم التربوية والنفسية.
ولم يكن أول من التقط هذه الفكرة الرائعة عالمَ تربية، بل كان مهندسا، وهو " على مبارك"، وكأن هناك مشابهة بين بناء الحجر وبناء البشر، من حيث السنن الكونية والشروط الاجتماعية، وكانت البداية الأولى عام 1871، بإنشاء دار العلوم .
لكن البداية الحقيقة كانت على يد خبير سويسرى فى التعليم اسمه " دور بك"، حيث أسس ما عرف باسم" مدرسة المعلمين المركزية" سنة 1880، على غرار مدرسة كانت قائمة بباريس على النمط نفسه.
وجرى النهر بمياه متعددة إلى أن استقر على ما عرف باسم " مدرسة المعلمين العليا "، من منذ الحرب العالمية الأولى.
لكن إنشاء الجامعة المصرية تحت مظلة الدولة عام 1925 كان بداية صراع مرير بين المعلمين العليا والجامعة..
كانت بداية الجامعة بكليات يغلب على الدراسة فيها النزعة الأكاديمية لا المهنية، مثلما كان فى المدارس العليا التى سادت عقودا من قبل طويلة، بينما كانت المعلمين العليا طبيعتها أن تؤهل لمهنة محددة.
ولما وجد الطلاب أن الجامعة لا تيسر لهم الحصول على عمل، على عكس المعلمين، كان الإقبال على الثانية، أكثر من الأولى.
وكان طه حسين حامل لواء الهجوم المستمر على المعلمين العليا، بل وعلى عموم التربية كلها، وله فى ذلك تصريحات وكتابات فى السخرية منها، ليس هنا مكانها.
ثم بدأ مسار جديد يبشر بانتهاء الصراع، عندما استدعت وزارة المعارف خبيرين أجنبيين : كلاباريد، من سويسرا، و" مان" من انجلترا لبحث القضية، وانتهيا إلى ضرورة تصفية المعلمين العليا، وإنشاء معهد جديد يقتصر على قبول خريجى الجامعة الذين يريدون التأهل لمهنة التدريس، وكان ذلك عام 1929.
ومع ذلك فقد ظلت مهنة التعليم تعانى من تدن فى سلم المهن فى المجتمع، وكان من أبرز ما أحط بمهنة التعليم ،ما أثر عنها من أنها مهنة من لا مهنة له، إذ كان أى خريج جامعى أو من المعاهد، أو من الثانوى والفنى، يمكن له أن يعمل بالتعليم، بينما يستحيل ذلك، مثلا " بالنسبة لمهنة المحاماة والطب والهندسة والصيلة وغيرها من المهن العالية.
وعلى الرغم من وجود معاهد للتأهيل المهنى والعلمى للمعلم، لكن وزارات التربية والمعارف، لم تكن " تدقق " فى هذا، ف " كله عند العرب صابون "، اعتمادا على نفس المقولة الخاطئة التى أشرنا إليها من قبل ألا وهى أن كل من علم علما يستطيع أن يُعَلِّمه للآخرين، وبالتالى، فلا حاجة لدراسة العلوم التربوية والنفسية ! ولا شك أن ألف باء ما تحظى به المهنة أن تكون لها قواعد وأسس ممارستها، وأن تكون هذه القواعد والأسس مبنية على بحث وعلم وتجريب واستقصاء وتحليل، وما إلى هذا وذاك من أصول العمل العلمى المنهجى ،وإلا عدنا إلى ما كان يعرف عندنا ب «حلاق الصحة» !!
إن هذا الجهل بأسس وقواعد لابد أن تقوم عليها مهنة التعليم بما يكفل لها الفاعلية العلمية والتربوية ما زال مستمرا حتى الآن، فعلى الرغم من وجود عشرات كليات التربية، فإن وزارة التربية لم تعد تلتزم بالاعتماد عليهم، وإنما ظلت عدة سنوات، وخاصة منذ أواسط التسعينيات، تنشر إعلانا عاما فى الصحف – كصورة من صور تطبيق غبى للسياسة الليبرالية- يمكن لأى خريج جامعى، من غير كليات التربية أن يتقدم إليه وينجح، ويصبح مدرسا، وتنظم له دورة تدريبية عدة أيام، وربما أسابيع، بينما يجلس في البيوت آلاف من خريجى كليات التربية عاطلين، بعد أن أنفقنا على كل منهم عدة آلاف من الجنيهات لتأهيله كى يكون معلما !!
انفتاح السبعينيات " السداح مداح " يصيب كليات التربية:
وكما سار انفتاح السبعينيات فى طرق حادت به عما كان يجب، فملأت أرض مصر بذور فساد وعشوائية، شهدت كليات التربية، شيئا من هذا..
فإذا كان البناء المادى لأى مؤسسة اجتماعية أو اقتصادية، أو غير هذه وتلك، له قواعده وأسسه ومواصفاته، التى يمكن أن يؤدى الترخُّص فى الالتزام بها إلى نتائج مؤسفة..فما بالنا عندما يكون هذا البناء خاصا بمؤسسة تُعِدّ " بناة البشر"، وكأننا أمام صورة تطبيقية يصدق عليها المثل الشعبى القائل: " باب النجار مخلّع" ؟
ولعل رواية إنشاء إحدى كليات التربية سنة 1971 توفر صورة لما حدث بالنسبة لكثير منها بالتتالى فيما بعد ذلك...
ففى أحد أيام سبتمبر من عام 1971، كُلِّف الدكتور محمد الهادى عفيفى، بإنشاء كلية للتربية بعاصمة إحدى المحافظات، مصطحبا معه كاتب هذه السطور، وعدد آخر من الزملاء، فماذا جرى فى هذا الشأن ؟
صحيح أننى شاركت فى هذا التأسيس المختل، لكن الحق أقول أن الكثير من الأمور لم تتوافر فى مستوى الوعى القائم، فضلا عن وضعى المهنى الذى كان متواضعا فى ذلك الوقت مما لم يكن يتيح لى أن أكون صاحب قرار له تأثير على مجريات الأمور . وبالإضافة إلى هذا فلربما تصورت أن " التصحيح " سوف يتم بعد فترة قصيرة، وأخيرا فمن الممكن أن يخطئ إنسان ويعترف بخطئه، ويتراجع عما كان عليه موقفه !
لم يكن هناك مبنى يكون قد أُعد خصيصا لقيام الكلية، والحجة أن انتظار هذا سوف يؤخر تلبية الاحتياجات الملحة للجماهير للتعليم الجامعى، وأن هذا يمكن أن يتم فيما بعد، وكان هذا أول إسفين فى جسم التعليم الجامعى.
كما لم يكن هناك ولو حتى معيدين أو مدرسين مساعدين ...وكان هذا الإسفين الثانى الذى ربما يكون أخطر ...
وقع الاختيار على مدرسة ابتدائية، مع هو معروف ما الحال الذى تكون عليه مبانى المدارس الابتدائية الحكومية فى مصر، فلا وجود لمعامل ولا وجود لمكتبة، على الرغم من حاجة أى مرحلة لذلك، لكن مثل هذه المكتبة إذا وجدت فهى لا تضم إلا قصص أطفال، وبعض الكتب البسيطة، ويستحيل أن تجد " ملاعب " أو غرفا مخصصة لممارسة الأنشطة التى يحتاج الطلاب لممارستها ...إلى غير هذا وذاك من مقومات حتى مستوى التعليم الابتدائى، فما بالك بكلية جامعية، هى بطبيعتها تضم تخصصات الكثير مما نجده فى كليات العلوم والآداب .
قمنا بنزع لافتة المدرسة الابتدائية ووضعنا بدلا منها لافتة تحمل اسم الكلية الجديدة ... هذا هو الفرق البارز ...اللافتة !
بدأت الدراسة، فكيف سارت فى ظل مثل هذه الأوضاع ؟
تم ندب عشرات الأساتذة من تربية عين شمس، حتى لقد كانت هناك عربة فى القطار الذاهب إلى المحافظة المذكورة تمتلئ بهم، فإذا وصلوا، دبت الحياة فى الكلية ... ولأن القطار يعود إلى القاهرة فى الثانية إلا ربعا ظهرا، كان لابد للجميع من ركوبه، فإذا بالكلية تعيش حالة موت تام ...فى الثانية إلا ربع !
المهم فى كل هذا، أن التفاعل بين الطلاب والأساتذة كان من الطبيعى أن يغيب تماما، فالأستاذ يخرج من هذه المحاضرة إلى التى تليها فورا إلى أن يجئ موعد إقلاع القطار، فيهرول إلى محطة السكة الحديد .
وفى ظل هذا أيضا، لا تتوقع أن يكون هناك نشاط ما .. فنى ..رياضى ..اجتماعى ...ثقافى، فلا وقت لكل هذا أو حتى ربعه .
وفى الأدبيات الجامعية على وجه الخصوص، والأدبيات التربوية والنفسية على وجه العموم، يتم التشديد على ما يسمى " بالحياة الجامعية "، على اعتبار أنها هى الوسيط المربى الحقيقى، وأن المسألة ليست مجرد تلقى محاضرات، وقراءة كتب ومذاكرتها، فهذا يجعل الجامعة مجرد امتداد للمدرسة، ولو أن المبدأ يؤكد القول بأنه، حتى المدرسة، لا ينبغى أن تتغافل عن "الحياة المدرسية"، وهى جملة التفاعلات التى تقوم بين عناصر البيئة المدرسية .
وبالتالى فإن الحياة الجامعية هى الأخرى هى جملة التفاعلات التى تقوم بين مختلف عناصر البيئة الجامعية من أعضاء هيئة تدريس وطلاب وفنيين وإداريين وتجهيزات، وقواعد مُنَظِّمة وقنوات للعمل والنشاط، ونظام للثواب والعقاب، فمن خلال كل هذا يتم تعلم وتعليم القيم والاتجاهات والمعايير الاجتماعية والمعاملات الإنسانية، وهو ما تعجز المحاضرات عن القيام به .
وعندما بدأ تعيين معيدين، لم تتهيأ لهم فرص التنشئة بين أعضاء هيئة تدريس، بمختلف درجاتهم ومستوياتهم، وكان المشرفون على رسائلهم، من كليات أخرى، نادرا ما تتاح لهم فرص التفاعل المعين على متانة البناء.
ومرت سنوات، وكل كلية تربية بها أستاذ واحد كعميد يشرف على رسائل المعيدين فى جميع التخصصات، ما يقع فى دائرة علمه وما لا يقع..
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فبعد أعوام قليلة، يرغب أعضاء الأقسام الأدبية فى الاستقلال عن كلية التربية وتكوين كلية آداب، ويتكرر الشئ نفسه، بالنسبة للأقسام العلمية، فتنشأ كلية علوم.
وعندما تتوافر هذه الكليات الثلاث، يبرز من يطالبون بإنشاء جامعة..
هنا مربط الفرس من الحديث ..
إن افتقاد قيام الكليات الإقليمية للمقومات الأساسية للتعليم الجامعى فى سنواتها الأولى، قد سرّب التكوين الجامعى هشاشة فى البنية العظمية، إذا صح التشبيه. ولا شك أن انتشار الجامعات الإقليمية إذا كان قد استهدف توفير أكبر قدر من العدل التربوى فى صورة تكافؤ للفرص التعليمية، إلا أن افتقاده قواعد التعليم الجامعى، قد فرّغه من محتواه، وتدفق مئات الألوف من خريجى هذا الجامعات إلى الحياة المصرية وقد غابت عنهم حقيقة الحياة الجامعية، حتى أصبحت هذه الحياة شيئا مما يقرءون عنه فى الكتب، أو يسمعونه من حكابات كبار الأساتذة، وأنه لم يعد من مقومات الحياة المعاصرة، وافتقدت هذه الجامعات بالتالى ما يمكن تسميته بتراكم الخبرات، الموفر لفرص النمو التطور 0
وقياسا على الأمر نفسه، يمكن التحدث عن الغياب الكبير للمكتبات الجامعية فى سنوات النشأة الأولى، والملاعب، والمختبرات ...
وعلى العكس من ذلك، لو راجعنا كيفية إنشاء جامعة مثل جامعة أسيوط، لوجدنا الاختلاف الصارخ، حيث هُيئت لها المبانى، وأُرسل المبعوثون إلى الخارج ليحصلوا على الدرجات العلمية العالية، وبعدها بدأ التعليم في الجامعة، وعندما تصح الأسس وتقوى، تستطيع أن تطمئن إلى سلامة البناء .
اختلالات فى الخريطة الكلية الحالية:
وإذا كان ما سبق يكشف عن تشوهات النشأة، فإننا نواجه فى وقتنا الراهن عددا من الاختلالات التى تحول بين كليات التربية وبين ما تستهدفه من تكوين لآلاف المعلمين، الذين يقومون بدورهم بتربية وتنشئة ملايين من الأبناء:
اختلالات التكوين : فالمفروض أن تسد كليات التربية احتياجات التعليم ما قبل الجامعى، بدءا من الحضانة ورياض الأطفال حتى انتهاء التعليم الثانوى، بمختلف تنوعاته: العام، والفنى الذى يشمل كلا من التعليم الثناعى والتجارى والزراعى.
وفيما نشير إليه من اختلالات، ليس القصد منه " التنديد" و" لطم الخدود"، وإنما هو تنبيه للمريض بما يعانيه من مرض، حتى يكون ذلك خطوة أساسية للتفكير فى العلاج.
والعدد الأكبر من كليات التربية يختص بإعداد الكم الأكبر من المقررات المعروفة مثل اللغات والعلوم الاجتماعية والعلوم الرياضية والطبيعية.
ومنذ سنوات طويلة وهناك جدل لا ينقطع عن سلبيات وإيجابيات نظامين يحكمان هذه الكليات؛ فى أحدهما تستقبل الكليات خريجى الثانوية العامة، حيث يدرسون طوال أربع سنوات علوما تربوية، بالإضافة إلى الكثرة الممثلة للتخصص الذى سوف يتخرج به الدارس معلما.
وهذا النظام نفسه يبذر بذور الضعف والهشاشة فى التكوين، فجملة ما يحصل عليه طالب التربية من علوم التخصص، يساوى ثلثى ما يحصل عليه قرينه فى الكليات المماثلة فى الجامعات، مثل الآداب والعلوم. وهو ينظر إلى علوم التربية وكأنها «غريبة»عليه، حيث يكون مندمجا فى تحصيل علوم التخصص، وهذا وذاك يدفعه إلى أن يُقَصِّر فى التحصيل، مما يضعف مكانته ويهز دوره العلمى والمهنى، خاصة فى هذا العصر الذى يشهد تقدما معرفيا مذهلا و اللغويةأ، يتطلب عدم الاقتناع بهذا الكم الضئيل الذى يحصل عليه طلاب التربية .
ومن هنا، فإذا وجد معلم " الفيزياء" – مثلا- نفسه فى المدرسة مجاورا لمعلم آخر من خريجى كليات العلوم، فسوف يشعر أن قامته المعرفية أقصر من هذا الثانى، والشئ نفسه بالنسبة لخريج الأقسام الأدبية فى كليات التربية بالمقارنة بخريجى كليات الآداب ويعملون بالتدريس، وحصلوا على إعداد تربوى.
وهنا قد يبدو أن النظام الثانى يسد نقص الإعداد التخصصى، حيث يلتحق فيه خريجو الجامعات بكليات التربية للحصول على إعداد تربوى ونفسى مدة عام ليكون معلما.
لكن يعيب هذا النظام أن نظام التخصص فى الكليات الجامعية التخصصية لا يطابق تماما وضع المقررات فى التعليم العام، فكلية الآداب- مثلا – تعد متخصصا فى التاريخ، لكن واقع العمل فى التدريس غالبا ما يجمع بين التاريخ والجغرافيا. والأمر نفسه بالنسبة للمتخصص فى قسم الفلسفة، يجد نفسه مطالبا بتدريس علم الاجتماع مع الفلسفة فى التعليم العام...وهكذا.
ومن هنا شهدنا منذ ما يقرب من عشر سنوات، خطوة تستهدف زيادة جرعة بعض مواد التخصص، لكن واقع الحال ينبئ بأنهم مهما زادوا من جرعات مواد التخصص فلن يصل خريج التربية إلى أن يكافئ قرينه من الكليات الجامعية الأخرى.
فما يتم تدريسه فى كليات التربية من مواد التخصص يسير على النهج نفسه فى كليات الجامعة الأخرى، وما ينبغى هذا أن يكون، فكليات التربية لن تخرج مؤرخا أو عالما فى الفيزياء أو غير هذا وذاك، فهذه ليست مهماتها، ولا يشينها ذلك، حيث أن لها مهمتها الأخرى، لكن إخواننا فى هذا المجال يصرون على المشابهة مع ما يتم فى كليات الجامعة الأخرى، ولأنهم، مهما فعلوا لن يصلوا إلى المماثلة، أصبح طالب التربية بالفعل لا هو متقن لعلوم " المهنة المتمثلة فى علوم التربية وعلم النفس، ولا هو متقن مواد التخصص، فأصبح – مع الاعتذار– " مسخا " بين خريجى الجامعات !
نكسة 2005:
فقد شهدت هذه الفترة عدة خطوات- مدفوعة الأجر بقرض أجنبى- أصابت بعض جوانب الإعداد فى كليات التربية بتشوهات مؤسفة، وإن تخفت فى صورة تجهيزات زودت بها كليات، ظلت كجرى العادة محفوظة فى المخازن، أو مكافآت مالية سخية، وفى الباطن، عملية اعتداء على مواقع، لها دورها التاريخى عبر عقود طويلة، تنفيسا عن مشاعر قديمة سيئة ما لها من أصول حقيقية.
فمن المواقف التى تم ترديدها " أن التغييرات الحادثة استهدفت أن تركز على المهارات العملية اللازمة لإعداد المعلم، بحيث يكون التركيز قائما على " كيف يكتسب طالب كليات التربية مهارات التدريس " ؟ وهو هدف فى حد ذاته يصعب إنكاره أو شجبه ، ولكن هناك ما يخفى على أصحاب التطوير المزعوم.
إن المسألة هى أن مئات الكتب والمراجع الخاصة بإعداد المعلم، وفى كل البلدان، وعبر شتى المذاهب والمدارس، تؤكد أن المعلم ليس " مدرسا " فحسب، وظيفته هى نقل المعرفة للطلاب، وإنما هو مكلف كذلك بعدد آخر من الوظائف والمهام إلى الدرجة التى تجمعها كلمة " مربى "، أكثر مما تشير إليها كلمة " مدرس "، بمعنى أن حدود مهامه تتجاوز " التدريس " لتشمل مهمته كأب أو أم، كأخصائى اجتماعى وأخصائى نفسى، وملم ببعض الثقافة الصحية، والدينية، وممارسة بعض المهارات الرياضية ...وهكذا.
صحيح أن هناك متخصصين لكل شأن من هذه الشئون، ولكن المعلم هنا يكون أشبه " بالممارس العام " فى المجال الطبى الذى يكشف على المريض، فإذا كان الشأن بسيطا عالجه هو، فإن لم يكن، حله على المتخصص، كأن يكون طبيبا فى هذا الجانب أو ذاك من جوانب المرض العضوى التى يعرفها أهل الاختصاص .
لقد اقتفى القوم أثر ما يحدث فى الولايات المتحدة، لكنهم نسوا متغيرات الثقافة والمجتمع فى بلادنا نحن .
ودون دخول فى تفصيل الفروق الثقافية التى يعيشها طلاب أمريكا، وتلك التى يعيشها الطالب فى مصر، فإن النتيجة أن المواطن يعيش فى أمريكا فى بحر كبير يغذيه – إذا شاء – بما يصعب حصره من الأغذية الثقافية، ومن ثم فهو عندما يلتحق بكلية لإعداد المعلم لا يكون بحاجة لدراسة مقررات متعددة تغذيه ثقافيا وفكريا، ويكون المطلوب بالتالى هو التركيز على " مهارات التدريس " .
لكن طالب كليات التربية عندنا يعيش مناخا يتسم بفقر ثقافى لا يخفى على أحد، و" تنميط " خانق، ومن ثم فهو عندما يلتحق بكليات التربية يكون " خاما " . ولا نريد أن يهب واحد ليقول أنه سبق أنه درس كذا وكذا فى سنوات التعليم العام وإلا سنعايره بالجهل بالفروق بين " مواد التعليم " التى تقدم فى المدارس وبين العناصر الثقافية المختلفة التى من المفروض أن يزخر به المناخ المجتمعى العام والتى تقوم بدور مهم فى تكوين الوعى وتشكيل العقل، فضلا عن الكثير مما يمكن أن يقال، مما لا يتسع المجال له، بالنسبة لعلاقة الطالب عندنا بما يحصله من مواد تعليم تنقطع الصلة بينها وبين صخب الحياة، ومن ثم تنقطع الصلة بينها وبين الطالب حال انتهائه من الامتحان فيها !
وهكذا ما كان ينبغى أن يحدث ما حدث لكليات التربية بحجة المشابهة بينها وبين ما تقوم به مثيلاتها فى الولايات المتحدة من تركيز فقط على التدريس، والتخفف مما يكون مصادر تثقيف وتنمية فكرية .
كليات التربية النوعية:
وكان إنشاء كليات التربية النوعية أصلا أمرا يجانبه الصواب، وقد كتبنا عن هذا فى حينه، فى أواخر الثمانينيات، وكانت وجهة نظرى التى ما زلت أراها حتى الآن، هى أن "التعديد" و"التكثير" من صيغ وأنواع المعاهد الخاصة بإعدادالمعلمين كان"بلاء" شديدا عانى التعليم المصرى منه الكثير عبر عشرات السنين0 ووجه معاناة التعليم من هذا، أن هذه المعاهد التعليمية تفرز إلى ساحة المدارس أنواعا وأشكالا مختلفة متباينة، فلسفة وأهدافا، ومن ثم يجد ملايين التلاميذ أنفسهم "عجينة" طيعة لأيادى وعقول، كل منها يريد تشكيلها بصورة وبفلسفة تختلف عن الآخر، فتفتقد عملية التنشئة والتربية الوحدة والتكامل والانسجام والاتساق.
إن هناك خلطا شديدا لدى كثرة من الناس - مع الأسف - بين "التعدد"و"التنوع"..التعدد، اختلاف فى الجذور وتباين فى الفروع، أما التنوع فهو توحد فى الجذور، وتباين فى الفروع، ومن هنا فإذا كان من المستحب "التنويع" فى صيغة من صيغ التعليم، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتعدد، فهو مكروه، إن لم يكن مرذولا . وإذا أردنا أن نسوق مثالا على ذلك، فلنتأمل معافى التكوين الداخلى لكليات التربية، ففيها أقسام لإعداد معلم اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وأقسام لإعداد معلمى الفيزياء والتاريخ والجغرافيا والأحياء ...وهكذا، هذا يمكن أن نصفه بأنه "تنوع"، لكن هناك نظاما وإجراءات ومقررات نفسية وتربوية، وفلسفة وأهدافا موحدة تجمع كل هذه الأنواع داخل إطار واحد .
فإذا ما وجدنا وزارة التربية والتعليم - مع الأسف - تعين بمدارسها معلمين، لتدريس نفس المقررات المشار إليها، من خريجى الآداب والعلوم، فهذا يعد "تعديدا" لأن فلسفة وتنظيم إعداد هؤلاء يختلفان إلى حد كبير عنهما داخل كليات التربية0
أما وأن ما حدث قد حدث بالنسبة لإنشاء كليات التربية النوعية، وفقا للفلسفة المخربة التى رزىء بها التعليم المصرى عبر عهود مختلفة، والتى تجعل من مدارسنا حقل تجارب، فلم نجد أمامنا إلا أن نرفع أيدينا بالدعاء إلى الله : اللهم إنا لا نسألك رد القضاء وإنما نسألك اللطف فيه !! وقد رافق ظهور هذه الكليات صور وسلبيات كانت موضع السخرية والحزن بين كثيرين، حيث بلغ الأمر - أحيانا فى سنواتها الأولى - إلى سلوكيات مما يدخل فى اختصاصات النيابة الإدارية..انحرافات وسرقات والعياذ بالله، والظهور الشيطانى لكليات دون أن يكون هناك عضو هيئة تدريس واحد، وربما دون أن يكون هناك مبنى أعد خصيصا لها، وتعيين عمداء من غير المتخصصين، مما جعل من بعض هذه الكليات نقطة سوداء فى تاريخ التعليم المصرى !
وعندما صدر القرار الخاص بضم هذه الكليات للجامعات، ضربنا كفا على كف، دهشة وتعجبا، لأننا نكرر بهذا أخطاء سابقة، فقد كان الأمر يقتضى – قبل هذا - دراسات ميدانية ونظرية، لا مجرد اجتماعات لجنة أو لجان، ترصد صورة ميكروسكوبية لأوضاع هذه الكليات، ثم تحدد فترة انتقالية يتفق عليها "لتوفيق الأوضاع"، وبعدها يحدث الضم الفعلى، على أن يتم هذا فى ضوء مراجعة عامة شاملة لنظام إعداد المعلم فى مصر بكافة أنواعه ومستوياته، وألا يكون هذا الضم مجرد زيادة كلية جديدة للجامعة، وإنما لابد وألا تكرر ما يتم فى كليات التربية الأصلية.
البداية الحقيقية لتطوير التعليم:
...وهكذا نجد أنه لا تطوير للتعليم إلا بتطوير صناعة تكوين المعلم، كما تتم فى كليات التربية، وذلك بالالتزام بالمسارات التالية:
1- لا داعى لاستمرار الجدل السوفسطائى حول نظام الإعداد والتكوين: هل باستقبال خريجى الجامعة، ودراسة العلوم التربوية والنفسية لمدة عام، أم الاقتصار على استقبال خريجى الثانوية العامة، ودراسة العلوم التخصصية، وكذلك العلوم التربوية والنفسية مدة أربع سنوات، فلكل من النظامين ميزاته وسلبياته، ويصبح من الممكن الإبقاء على كليهما.
لكن، الأفضل دمج النظامين، كيف؟
مع التقدم المذهل فى المعرفة، لم يعد مقبولا أبدا أن يستطيع المعلم فى مرحلة التكوين أن يقف على قدمين راسختين فى علوم التخصص، والعلوم التربوية والنفسية، وأن المواجهة الشجاعة تقتضى الإصرار والإلحاح على أن تكون مدة الدراسة خمس سنوات، بحيث يتمكن المعلم تحت التكوين من تحصيل ما يحصله زميله فى كليات الآداب والعلوم، بالإضافة إلى التفرغ إلى دراسة العلوم التربوية والنفسية.
2- لابد من الوعى بالوظيفة الحقيقية لمثل هذه الكليات، بحيث يتم تحديد الموقف منها: هل هى كليات معلمين، أم كليات تربية؟
فهى، حتى الآن، اسم على غير مسمى، ذلك أنها تقتصر على تكوين وتنشئة من سوف يشتغلون بمهنة التدريس، مما يؤكد أنها كليات معلمين، وليست كليات تربية.
فإذا أردنا أن تكون كليات تربية حقا، فلابد من الوعى بأن التنشئة والتربية ليست مهمة المعلمين وحدهم، بل هى كذلك مهمة:
أ- الآباء والأمهات، بحيث تنظم دراسات ،وفقا لفلسفة التعليم المفتوح، مدة ثلاثة أشهر، مثلا، لبث الوعى لديهم بكيفية تربية أبنائهم ومواجهة مشكلاتهم، ولسنا فى حاجة إلى تأكيد الدور الحاسم لهذه الشريحة مما يفوق دور المعلمين، وقد تسهل لهم أو تعوقهم فى أداء رسالتهم.
ب- الدعاة : ففى كل يوم جمعة يقف آلاف الدعاة على منابر المساجد، يخطبون فى ملايين الناس، مفروض أن يؤسسوا لديهم الوعى الدينى المستنير، والتخلق بأخلاقيات الدين التى تقوم على التزام الطريق المستقيم، والجدال بالتى هى أحسن، ومن ثم فهم من أكثر الفئات حاجة إلى دراسة كيفية التعليم والأسس النفسية للشخصية الإنسانية. وطبعا ينطبق هذا على الإخوة الدعاة الأقباط.
ت- الإعلاميون، فمع وعينا بأن لهم أدوارا متعددة، لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن الإعلام قد أصبح منافسا لدور مؤسسات التعليم، بل والأسرة، ومن الخطر أن يظل ساحة لبعض الممارسات التى يمكن أن تهدم ما تبنيه كل من الأسرة والمدرسة، مما يوجب تقديم برامج، أيضا وفق نظام التعليم المفتوح، قصيرة فى بعض القواعد والأسس والأساليب التى ترشد إليها علوم التربية والنفس.
3- من المخجل حقا أن يسجل تفكير روادنا أول الخمسينيات وعيا متميزا بكيفية التخطيط الاستراتيجى لتكوين المعلم، فكان مخطط كلية المعلمين بروكسى بمصر الجديدة، يشمل كلا من: جزء كبير لتلقى المحاضرات+ مركز لإعداد التقنيات التربوية والتدرب عليها+ مركز لتدريب المعلمين وتجديد خبراتهم أثناء الخدمة+ مدرسة تشكل ما تشكله المسشتفى التعليمى بالنسبة لكليات الطب.
لكن ظروفا لا مكان لها هنا، ضيّعت تكامل هذا " المجمع " العظيم، وأصبحت المسألة تقتصر على تدريس طلاب الكليات، ولو سعينا لتحقيق هذا الحلم، بأن يكون هناك " مجمع " يجمع مدرسة للتجريب والتعليم، ومركز للتقنيات التعليمية، وقاعات للمحاضرات، وما يلزم من معامل، ومركز للتدريب أثناء الخدمة، لأصبح كل مجمع قوة ضاربة فى ساحة المعرفة والتنشئة يمكن أن تحقق الكثير مما نحلم به.
4- ومع الاعتذار للكثيرين، من حيث الاستشهاد بالماضى، لكن، ما العمل وطريق المسير فى ساحة أحيانا ما يسير إلى وراء؟
فقد كان من القواعد المقررة عند تعيين المعيدين فى كلية التربية(الأصلية) التى كانت وحيدة فى نظامها فى المنيرة بالقاهرة، ضرورة أن يقضى عامين اثنين ممارسا لمهنة التدريس بالفعل، فإذا به اليوم يُعين بغير هذا الشرط، ويتدرج فى درجاته إلى أن يصبح أستاذا كبيرا بغير أن تكون له خبرة إلا تلك الخبرة القصيرة الفجة، والتى كلنا يعلم أنها شكلية أكثر مما هى جدية أثناء سنوات الليسانس والبكالوريوس.
كيف يكون هذا وذاك أستاذا للتربية، يُخَرّج معلمين من غير أن يمضى وقتا متصلا فى مدرسة يشم رائحة التدريس ويعانيه، ويختلط بصغار الطلاب، ويعيش مشكلات الآباء والأمهات، والمدرسة؟
لابد من العودة إلى اشتراط الاشتغال مدة عامين فى مدارس التعليم قبل الجامعى، مع أخذ الاحتياطات التى يمكن أن تدفع البعض إلى " تصنيع" شهادات خبرة بالطريقة المعرفة!!
5- من غرائب تعليمنا أنه فى الوقت الذى يحتل فيه التعليم الفنى ما يقرب من ثلثى طلاب التعليم الثانوى كله، نجد عشرات الكليات لإعداد معلم التعليم العام، ثم لا نجد من كليات إعداد معلم التعليم الفنى إلا ما يقل عن أصابع اليد الواحدة، وكأننا هنا نؤكد فكرة أن التعليم الفنى هو تعليم الدرجة الثالثة، للغلابة، فلا نجد كليات لإعداد معلم التعليم التجارى، أو الزراعى، وبالنسبة للصناعى، قد نجد كليتين، ومن ثم فلابد من التحرك العملى لكسر هذا الحصار الذى يحيط بالتعليم الفنى ومعلميه، وحتى لا يصبح خطابنا حول التنمية خطابا سطحيا.
6- وفى الوقت الذى يعانى فيه معلم التعليم الفنى من إهمال الإعداد والتكوين، تنتشر فى ربوع مصر كليات التربية النوعية، التى تكرر ما تقوم به كليات أخرى، فهناك كليات للتربية الموسيقية وأخرى للتربية الفنية، وكثير من مقرراتها تقوم به كليات التربية العامة، وتكنولوجيا التعليم يمكن أن تقوم به كليات التربية العامة أو كليات معلم التعليم الفنى عندما تنال ما تستحقه من اهتمام، وكل هذا يدفعنا إلى ضرورة إعادة النظر فى كليات التربية النوعية لتذويب بعض ما تقدمه فى كليات التربية العامة، وتحويل بعضها الآخر إلى كليات لإعداد معلم التعليم الفنى.
7- فى مهن مثل المحاماة، والهندسة، والطب، على سبيل المثال، لا يسمح لأحد بممارستها إلا بعد أن يحصل على ترخيص بذلك، وشرطه الأول، الحصول على الدرجة الجامعية الأولى على الأقل من الكلية المختصة. ومن العار حقا ألا نتعامل مع مهنة التدريس بالمنطق نفسه، مما يوجب تحريم ممارسة مهنة التدريس، إلا بالحصول على رخصتها، وفقا للشروط المتفق عليها، وأن تلتزم وزارة التربية بذلك، وتناضل نقابة المعلمين على هذا الطريق.
8- لأن عشرات كليات التربية، التى تضم آلافا من أعضاء هيئة التدريس، والتى تُعلم بدورها مئات الألوف، العديد من علوم التخصص وعلوم التربية وعلم النفس، فهم بعد التخرج ليس أمامهم من فرص عمل إلا بالتدريس، ومن ثم يكون من المنطقى أن يتم تكليف خريجى كليات التربية بالعمل بالتدريس. وإذا كانت طاقة وزارة التربية قد لا تتحمل ذلك مرة واحدة، فيمكن أن يكون هناك " دور" و "ترتيب" وفقا مجمع درجات التخرج. إن هذا من شأنه أيضا أن يعين على تحسين الأداء التدريسى فى المدارس، فهو غالبا ما سوف يستقطب أعلى درجات الحاصلين على الثانوية العامة، ومن ثم بث دماء صحة وعافية فى " الخامة" التى يتم إعدادها لتنشئة ملايين من أبنائنا.
9- لأن الكثير مما أمِلناه ونطالب به يتطلب إنفاقا قد لا تتحمله ميزانية الجامعات الرسمية وحدها، فلابد من أن يجتمع مسئولو هذه الكليات للتفكير فى استنبات مصادر دخل زائد الدخل الرسمى، شريطة ألا يجور على قواعد العدل التربوى، وألا ينجرف إلى سوق المتاجرة بالتعليم، ولعل فى التجربة الرائعة التى حققها الدكتور على الجمل، عميد تربية عين شمس السابق، خير مثال على هذا الطريق، فهى حقا فريدة فى نوعها، وفى نتائجها.
10- وإذا كنا قد أشرنا فى مقالنا الأسبق عن الثقافة والتعليم إلى " نكسة تطوير كليات التربية المزعوم عام 2005، فإن أحد سبل التطوير الحقيقى المنتظر أن تتضمن خطة كليات التربية، هذه المجالات التى إما حُذفت، أو حوصرت بالتضييق الزمنى لتفسد تعليمها:
أ- تخصيص وقت للطلاب للمناقشة الحرة فى مشكلات التعليم وقضاياه.
ب- مخطئ من يتصورأن تخصيص وقت كاف لتكوين ذاكرة التعليم، هو التفات إلى وراء، فلا فهم لمشكلات الحاضر بغير وعى بأصولها السابقة، ولا صحة لبناء مستقبل من غير وعى بمشكلات الحاضر، وخبرة الماضى.
ت- من المخجل حقا أن مَن طوروا لا يعون أن الفلسفة فى كل مجال لم تعد مناقشات ميتافيزيقة لا تثمر ولا تغنى من جوع، وإنما هى " خريطة فكرية " – وخاصة فى التربية- أشبه بما يحرص عليه متخصصو الأبنية المادية، من وضع " تصميم " للمبنى، فهل بناء البشر، لا يستحق أن يتساوى ببناء الحجر، بتعزيز هذا المجال المعرفى الذى يوفر النظر الكلى الشامل، والبحث عن الأصول والجذور، والتطلع إلى ما يجب أن يكون؟
ث- ولأن المعلم مطلوب منه مشاركة طلابه فى بعض الأنشطة، ولأنه كذلك مطالب بأن يأخذ بعين الاعتبار حالة تلاميذه الصحية العامة، فياليت أول الأمر يعيدون تدريس مقررين، كنا ندرسهما فى كلية التربية (الأصلية، ألا وهما: التربية الرياضية، والتربية الصحية).

إنها اجتهادات إنسان، تقف خلفها خمسة وخمسون عاما من الخبرة المعرفية والعملية، لكنه يؤطرها بمقولة الإمام الشافعى: " رأينا صحيح يحتمل الخطأ، ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب"...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.