تمر الجامعات المصرية الآن بحالة من الغليان الذى يتمثل فى المطالبات الثورية للطلاب وأعضاء هيئة التدريس (خاصة الشباب منهم) لإقصاء القيادات الجامعية باعتبارها قيادات أتى بها النظام السابق الذى أسقطته الثورة. وتطرح هذه المطالبات تصورا بديلا يقوم على انتخاب القيادات الجامعية. غير أن مثل هذا الطرح للمطالبات لا يسعى إلى تغيير حقيقى أو ثورى، لأنه يختزل قضية التعليم الجامعى فى مسألة انتخاب القيادات الجامعية، ولذلك ينبغى أن نضع فى اعتبارنا الملاحظات الأولية التالية حينما ننظر فى مسألة التعليم الجامعى. إن التغيير الشامل الذى تمر به مصر الآن، يستدعى الإصلاح فى المنظومة التعليمية برمتها باعتباره من أولويات الإصلاح على المستويات كافة. إن التغيير الحقيقى لا يمكن أن يقوم على مجرد تغيير الأشخاص، وإنما ينبغى أن يسعى إلى تغيير الدساتير والقوانين واللوائح، التى تأتى بالنظم والمعايير، التى تأتى بدورها بالأشخاص الذين يريدهم المطالبون بالتغيير. وبهذا المعنى ينبغى أن ننظر فى تأسيس قانون جديد للجامعات كمطلب أول وعاجل. إن تأسيس قانون جديد للجامعات ينبغى أن يهدف فى سائر مبادئه وتوجهاته إلى إصلاح منظومة التعليم، وصياغة فلسفته ورسالته بناء على متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة والتطلعات المستقبلية فى الوقت ذاته. ولا شك أننا لا يمكننا فى هذا السياق أن نتحدث فى التفاصيل، وإنما يمكن فحسب أن نتحدث عن مبادئ وتوجهات عامة، ينبغى أن تشتمل عليها تفاصيل القانون ولا تتعارض مع أى منها، وهذا ما يمكن إجماله فيما يلى: التأكيد على أن الرسالة الحقيقية للتعليم الجامعى لا ينبغى أن تهدف إلى مجرد تخريج موظفين ومهنيين، وهو أسوأ أنواع التعليم الذى يُعرَف باسم vocational education، فمثل هذا النوع من التعليم قد يلائم عصر محمد على، ولكنه لا يلائم عصرنا الراهن الذى يهدف فيه التعليم إلى خلق مواطن قادر على الإبداع والمشاركة فى سائر مشكلاته وقضاياه العلمية والتقنية والثقافية، على نحو يجعله مواكبا لتطورات العصر. التأكيد على مجانية التعليم وجودة نوعيته التى تقوم على الكيف لا الكم، وهذا يستلزم قبول الدارسين بالجامعات وفقا للشروط والمتطلبات التى تحددها الكليات. التأكيد على استقلالية الجامعات فى تصريف شئونها العلمية والإدراية والمالية. وهذا يعنى ضرورة فهم التعليم باعتباره تعليما ليبراليا غير مسيس، وغير موجه لخدمة أغراض سياسية أو إيديولوجية أو دينية معينة. تعيين القيادات الجامعية ممثلة فى رئيس الجامعة والعمداء ورؤساء الأقسام بناء على الانتخاب، وذلك على النحو التالى: يتم الإعلان عن هذه الوظائف القيادية عندما تصبح شاغرة وفقا لانقضاء المدة الزمنية المحددة لها أو ببلوغ سن المعاش بالنسبة لشاغرها، أيهما أقرب. ويجوز لمن شغل الوظيفة أن يتقدم إليها مرة أخرى ما دام أستاذا عاملا أو ما زال فى سن الخدمة التى يقررها القانون. يحق لأى أستاذ جامعى أن يتقدم لشغل الوظيفة القيادية وفقا لمعايير وضوابط موضوعية صارمة يحددها قانون تنظيم الجامعات بالنسبة لكل وظيفة، وتشكل لجنة منتخبة من كبار الأساتذة الثقات، تنحصر مهمتها فى ترشيح أسماء المتقدمين وفقا لهذه الضوابط. ينتخب مجمل أعضاء هيئة التدريس عميد الكلية، وينتخب عمداء الكلية رئيسا للجامعة من بينهم، وفقا للمعايير والضوابط، التى يحددها قانون تنظيم الجامعات لمن يحق لهم شغل وظيفة رئيس الجامعة. يحق لعميد الكلية اختيار وكلاء كليته، ويحق لرئيس الجامعة اختيار نوابه (أو على الأقل ترشيح الأسماء التى يتم الاختيار من بينها)، ضمانا لتحقيق الانسجام فى عمل الإدارة. ينتخب أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة بكل قسم رئيسا لقسمهم من بين أقدم ثلاثة أساتذة من الأساتذة العاملين بالقسم العلمى. أن تدعم الدولة ميزانية التعليم وفقا للمتطلبات المالية اللازمة للارتقاء بجودة التعليم، كما يحددها الخبراء فى هذا المجال، باعتبار ذلك من أولويات النهضة. وليس بخافٍ على أحد أن هذه الميزانية يجب أن تبلغ ضعفها على الأقل كمرحلة أولى (فليس من المعقول أن تبلغ ميزانية البحث العلمى فى إسرائيل 4% من الدخل القومى، بينما لم تبلغ فى بلدنا 1% من الدخل). تعديل جدول رواتب أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة بحيث لا يقل ما يتقاضاه أى منهم عن ضعف الراتب الحالى. مع تقديم حوافز مادية عادلة للإدرايين وفقا لاشتراكهم فى برامج تطوير أداء الجهاز الإدارى التى تحددها كل جامعة. إلغاء ربط الحوافز المالية بما يسمى «بالجودة» على النحو المعمول به حاليا، وهو النحو الذى حول الجودة إلى مجرد ملء استمارات شكلية لا تقيس شيئا سوى الحضور الجسمانى لعضو هيئة التدريس، وكأن الجودة تعنى التزام العضو بالطاعة والانصياع مقابل حصوله على حافز مادي! ولهذا فإن المعايير الحقيقية لجودة الأداء العلمى والمهنى يجب أن تكون متضمنة فى قانون تنظيم الجامعات، سواء فيما يتعلق بمجال البحث الأكاديمى أو الأداء المتعلق بالعملية التعليمية أو نشاط العضو الثقافى وحضوره فى خدمة المجتمع، الذى يتجاوز أسوار الجامعة (ولدىّ أنا شخصيا فى هذا الصدد استمارة لقياس جودة الأداء تتضمن معايير صارمة للقياس الموضوعى، الذى يمكن على أساسه تقييم أداء عضو هيئة التدريس من خلال نقاط أو درجات). بما إن قوام الجامعة يتشكل فى المقام الأول من أستاذ وطالب، فإنه لا ينبغى تناسى أن الجامعة وإن كانت قلعة للبحث العلمى، فإنها فى الوقت ذاته عملية تعليمية لا تقوم من دون الطالب، فالأساتذة لا ينبغى أن يكونوا مجرد مفكرين وباحثين، وإنما هم أيضا معلمون وتربويون. ومن هذه الناحية الأخيرة، فإن الطالب يجب أن يُعتد برأيه فى تقييم العملية التعليمية (أعنى تقييم الأستاذ، لا من حيث جدارته وقيمته العلمية، وإنما من حيث التزامه بدوره كمعلم وتربوى: كالتزامه بتوقيت المحاضرات، وبتوصيف المقرر الدراسى، والقدرة على الإيضاح، وإفساح المجال للحوار والمناقشة، وحسن معاملة الطلاب.. إلخ). وينبغى أن يعتد برأى الطلاب فى هذا الصدد من خلال استمارات قياس تقييم أداء يملؤها الطلاب، وتناقش علانية فى مجالس الأقسام، ويتم اتخاذ القررات الملائمة بشأنها.