يشهد تاريخ الأممالمتحدة، التى تحتفل هذا العام بذكرى مرور سبعين عاماً على تأسيسها عام 1945، على الدور المهم الذى لعبته مصر فى إنشاء المنظمة العالمية وصياغة ميثاقها فى مؤتمر سان فرانسيسكو ودفاعها المتواصل أمامها عن القضايا العربية والإسلامية، مستندة إلى أحكام القانون الدولى ومتمسكة بالمبادئ الراسخة لميثاقها وأهدافه السامية. ومن هذا المنطلق سوف تواصل مصر الاضطلاع بهذا الدور الرائد عند انضمامها إلى مجلس الأمن كعضو غير دائم لعامى 2016 و2017. وقد ارتكزت السياسة الخارجية المصرية على مر السنين فى تناولها القضايا الوطنية والإقليمية على عدة ثوابت لعل أهمها احترام مبادئ القانون الدولى والالتزام بأحكامه الأساسية، وانعكس ذلك فى المواقف المصرية خلال مفاوضات معاهدة السلام المصرية والإسرائيلية، ومفاوضات تسوية القضية الفلسطينية وفق الشرعية الدولية، وحل قضية طابا بواسطة التحكيم، وترسيم حدود مصر البحرية، والحفاظ على حقوق مصر فى مياه النيل، وتسوية الأزمات العربية بالطرق السلمية مع التأكيد على المحافظة على وحدة الدول وسلامتها الإقليمية وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، ومكافحة الإرهاب بكافة صوره وأشكاله. وشاركت مصر منذ نشأة الأممالمتحدة فى كافة المؤتمرات الدولية وأجهزة الأممالمتحدة ولجانها المعنية بالقانون الدولى، فعلى سبيل المثال لعب ممثلو مصر دوراً نشطاً وفعالاً فى محكمة العدل الدولية ومحكمة جرائم يوغسلافيا ولجنة القانون الدولى ولجنة القانون التجارى الدولى ولجنة القانون الإنسانى الدولى ومجلس حقوق الإنسان ولجان الحقوق النوعية ولجنة تعريف العدوان ومؤتمر قانون البحار ومؤتمر إنشاء المحكمة الجنائية الدولية...الخ. وفى هذا السياق، ساندت مصر جهود دول العالم الثالث فى تطوير القانون الدولى وتقنينه بما يتماشى مع مصالح الدول النامية، فنجحت تلك الدول فى ترسيخ مفاهيم قانونية متطورة كالحق فى التنمية، وحق تقرير المصير، والنظام الاقتصادى الدولى الجديد، وسيادة الدولة على مواردها، والتراث المشترك للإنسانية، والمنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة، وحماية حقوق الإنسان دون تفرقة أو تمييز، والعدالة والمساواة فى تطبيق القانون الدولى الاقتصادى فى ظل العولمة... كما لعبت مصر دوراً مهماً فى تعزيز التعاون القانونى بين الدول الآسيوية والإفريقية وتنسيق مواقفها فى مجال القانون الدولى. ففى أعقاب مؤتمر الدول الآسيوية الإفريقية المنعقد فى باندونج بإندونيسيا عام 1955، قامت مصر بمشاركة كل من الهند وإندونيسيا والعراق واليابان وسريلانكا وبورما بإنشاء اللجنة الاستشارية القانونية الآسيوية التى تحولت عام 2001 إلى منظمة دولية هى المنظمة القانونية الاستشارية الآسيوية الإفريقية التى مقرها نيودلهى والتى تضم حالياً سبعة وأربعين عضواً من الدول الآسيوية والإفريقية، وتقديراً لأهمية دور مصر تم اختيار القاهرة كمقر لمركز التحكيم التجارى فى المنازعات الاقتصادية والتجارية بين الدول الآسيوية والإفريقية. من خلال مشاركة المنظمة القانونية الاستشارية فى تطوير قواعد القانون الدولى ساهمت برؤية أعضائها ومقترحاتهم فى جوانب هامة من قانون المعاهدات وقانون البحار والقانون الإنسانى الدولى والقانون الجنائى الدولى وقانون حماية البيئة وغيرها. وفى هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه خلال الدورة السنوية الرابعة والخمسين للمنظمة التى عقدت هذا العام فى بكين، والتى كان من أهم موضوعات جدول أعمالها دعم القضية الفلسطينية ومكافحة الإرهاب والتطرف وحماية البيئة، أكد رئيس الوزراء الصينى على أهمية دعم التعاون القانونى بين الدول الآسيوية والإفريقية وتوحيد مواقفها إزاء القضايا القانونية الدولية، وأعلن تبنى بلاده أول برنامج للتدريب وتبادل الخبرات والدراسات القانونية بين الدول أعضاء المنظمة. لعل من أهم التحديات التى تواجهها الأممالمتحدة اليوم هو قدرتها على حمل الدول الأعضاء على احترام القانون الدولى وتطبيقه فى العلاقات الدولية. فالأمثلة حافلة على انتهاك الدول لقرارات الأممالمتحدة، وانتهاجها المعايير المزدوجة، وتغليبها المصالح السياسية على الالتزامات القانونية. ورغم ذلك فقد نجحت الأممالمتحدة فى مهمتها المتعلقة بتطوير القانون الدولى وتقنينه وذلك من خلال أعمال لجنة القانون الدولى التى أنشأتها الجمعية العامة عام 1947 استناداً إلى ميثاق الأممالمتحدة الذى أشار فى مادته الثالثة عشرة إلى قيام الجمعية العامة بتشجيع التطوير التدريجى للقانون الدولى وتقنينه من خلال صياغة قواعد قانونية ومشاريع اتفاقيات دولية تساهم فى دعم النظام القانونى الدولى. وتتألف اللجنة حالياً من أربعة وثلاثين عضواً من كبار خبراء القانون الدولى المنتمين إلى مختلف المجموعات الإقليمية والممثلين لأهم النظم القانونية فى العالم. وقد لعب الأعضاء المصريون فى اللجنة منذ إنشائها دوراً نشطاً وفعالاً فى طرح رؤيتهم إزاء القضايا القانونية الدولية، وهم الدكتور عبد الله العريان والدكتور بطرس غالى والدكتور نبيل العربى والدكتور حسين حسونة، وطالبوا بمشاركة أوسع وأنشط للدول النامية فى أعمال اللجنة حتى تعكس القواعد القانونية والمعاهدات مصالح تلك الدول وتطلعاتها، خاصة أن تقنين القانون الدولى كان فى الماضى حكراً على الدول الأوروبية مما عكس مفاهيمها ومصالحها الذاتية. وقد أعدت لجنة القانون الدولى منذ إنشائها معاهدات متعددة الأطراف فى أهم مجالات العلاقات الدولية، كالعلاقات الدبلوماسية وقانون البحار وقانون المعاهدات والحصانة القضائية للدول وممتلكاتها والمجارى المائية لأغراض غير الملاحية...الخ. كما تعد اللجنة حالياً نصوصاً قانونية حول عدد من القضايا المعاصرة الهامة، ومنها صياغة اتفاقية دولية لتعزيز الجهود الدولية فى مكافحة الجرائم ضد الإنسانية، ووضع قواعد تؤكد مسئولية المنظمات الدولية عن أفعالها غير الشرعية أسوة بمسئولية الدول، وتحديد الالتزامات إزاء حماية الأشخاص فى حالات الكوارث التى أصبحت واسعة الانتشار عالمياً، ووضع الأجانب والمهاجرين وطردهم من إقليم الدولة، وحماية البيئة المعرضة للتدمير فى النزاعات المسلحة، والتزام الدولة بتسليم المجرمين أو محاكمتهم منعاً من إفلاتهم من العقاب ...الخ، وذلك تمهيداً لعرض كافة تلك النصوص على الجمعية العامة للأمم المتحدة لاعتمادها. وتقديراً لدور مصر فى دعم القانون الدولى ومساهمتها فى تطويره وتدريسه، فسوف تنظم الأممالمتحدة فى القاهرة فى الفترة القادمة بالتعاون مع وزارة الخارجية المصرية أول دورة تدريبية عربية عن التطورات الحديثة للقانون الدولى يشارك فيها دبلوماسيون من مختلف الدول والمنظمات العربية، ويحاضر خلالها كبار أساتذة القانون الدولى وعدد من أعضاء لجنة القانون الدولى، كما ينظم الاتحاد الأفريقى لأول مرة كذلك، منتدى أفريقيا حول تحديات القانون الدولى فى القارة الأفريقية، وذلك بمشاركة الجمعيات ومراكز الأبحاث القانونية الأفريقية فضلاً عن أعضاء لجنة القانون الدولى الأفريقية. ولاشك أن اختيار مصر من قبل كل من الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقى كمقر لإقامة هذه الدورات لخير دليل على اعتراف دولى بتنامى الدور الثقافى والعلمى لمصر وتأثيره الإيجابى على التعاون القانونى بين الدول العربية والأفريقية. ونحن نتطلع من جانبنا إلى حفاظ مصر على دورها الرائد فى دعم القانون الدولى وتطبيق أحكامه فى العلاقات الدولية، كما نأمل تشجيعها ومساندتها مراكز الدراسة والبحث والجمعيات العلمية التى تعمل على تدريس القانون الدولى ونشره وتطويره كالجمعية المصرية للقانون الدولى التى كانت لها فى الماضى شهرة دولية مرموقة. كما نتطلع إلى تعزيز التعاون العربى فى مجال إنشاء آليات قانونية قومية جديدة وفعالة تساهم فى نشر الثقافة القانونية الدولية فى الوطن العربى. وفى هذا السياق حان الوقت أن تنظر جامعة الدول العربية فى إنشاء لجنة عربية للقانون الدولى مثلما فعل الاتحاد الإفريقى منذ سنوات بإنشاء اللجنة الإفريقية للقانون الدولى التى ساهمت برؤيتها فى تطوير القانون الدولى والإفريقى وتقنينه وأصدرت آراء استشارية وقامت بدراسات وأبحاث عن القوانين الأفريقية وتفعيلها. وختاماً، فلنتذكر دائماً أن القانون الدولى والشرعية الدولية هما أقوى سند للقضايا العربية العادلة. لمزيد من مقالات حسين عبد الخالق حسونه