فى أثناء نقل مكتبة طه حسين الخاصة من دار الكتب على كورنيش النيل الى متحفه فى الهرم، فى سنة 1993، عثر بين كتب المكتبة التى يقدر عددها بالآلاف على كتاب لا يختلف فى شكله الخارجى عن كتب المكتبة. وبتصفح هذا الكتاب عند فهرسة المكتبة، تبين أنه مخطوط باللغة العربية كتبه كاتب يونانى يدعى أوجين ميخائليدس سنة 1951 عن طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف العمومية فى حكومة الوفد، وأهداه اليه. ولأن طه حسين لم يكن يحفل كثيرا بما يكتب عنه، وضع الهدية فى رف من رفوف المكتبة، كأنه كتاب من كتبها، ولم يعد يذكرها أو يذكر مقدمها. وقد ظل المخطوط فى مكانه أكثر من أربعين عاما، لا يعلم أحد عنه شيئا، وإلا لوجد من يكتب عنه، أو على الأقل من يشير إليه فى المقالات والدراسات التى كانت تجرى عن طه حسين. ولولا اليد الخبيرة المدربة على التعامل مع المخطوطات والكتب لبقى هذا المخطوط, الذى تخفى فى شكل كتاب مطبوع ،مدرجا بين كتب المكتبة، مجهولا لمدد أخرى لا يعلمها إلا الله. وللقيمة التى يمثلها هذا المخطوط، طبعه المركز القومى للفنون التشكيلية بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية طبعة محدودة فى 1996 ضمن فعاليات الاحتفال بافتتاح متحف طه حسين، ووضع مدير المتحف ساعتها، اسمه على غلافه، بدلا من اسم من اكتشفه وحققه، وأعده للنشر! وكان هناك اقتراح قُدم للسفارة اليونانية بالقاهرة لترجمة النص العربى إلى اليونانية ونشر النصين العربى واليونانى فى مجلد واحد، ولكن الاعتمادات المالية للقسم الثقافى للسفارة حالت دون تحقيقه. واقتصر توزيع الكتاب المطبوع على زوار المتحف ورواد ندواته، ولم يُطرح فى مكتبات بيع الكتب، أو على الأرصفة مع باعة الصحف. وعلى الرغم من الجهد الذى بُذل لتوثيق النص لمعرفة من هو مؤلف هذا المخطوط وأين عاش وما هى أخباره وهل ألف كتبا أخرى تعين على الكتابة عنه؟.. وغيرها من الأسئلة العادية التى تثار فى مثل هذه الحالات, فإن هذه الجهود لم تسفر عن شىء أكثر من أن المؤلف هو أوجين ميخائليذس، وكان يعيش فى مدينة الإسكندرية حين كانت الجالية اليونانية التى ينتمى اليها مندمجة فى حياتها الاجتماعية والاقتصادية، تشكل شطرا من ملامحها فى التعليم والطب والتجارة وأنه كان يعمل فى هذه المدينة محاميا ويهوى الأدب وله بعض المقالات فى الصحف اليونانية ولم يؤلف بالعربية غير هذا الكتاب المجهول. وبعد أن انتهى أوجين ميخائليدس من تأليف كتابه المخطوط ، شد الرحال الى القاهرة وقدمه بنفس مبتهجة الى طه حسين، هدية منه للكاتب العظيم الذى أحبه كما أحبته أجيال كاملة من المثقفين وعامة الناس ورآه فى مستوى العبقريات الخالدة التى يجمع بينه وبينها آفة العمى، مثل هوميروس، وديديموس والمعرى وميلتون الذين عرفوا كما عرف طه حسين رغم الحرمان من نعمة البصر كيف يغزون قلوب وعقول بشر ويخرجونهم من الظلمة الى النور. أما الكتاب, وعنوانه «طه حسين باشا», فهو يتتبع فى صفحاته حياة طه حسين وأدبه، أو سيرته وإنتاجه، معتمدا على مؤلفاته، وعلى بعض الكتب التى صدرت عنه، وبعض الدوريات الصحفية التى كتبت عنه، أو أجرت معه الحوارات. واختار المؤلف من كتب طه حسين مقاطع رصع بها كتابه تفصح عن هموم العميد الثقافية التى أراد بها أن يوحد العالم العربي، ويرتقى به. وقصة حياة طه حسين فى هذا الكتاب تبدأ من القرية وكتابها، ينتقل بعدها فى سن الثالثة عشرة الى القاهرة، لكى ينتسب الى الأزهر، ويتلقى فيه على مدى أربع سنين دروس فهم اللغة وتذوقها ونقدها على يد الشيخ سيد المرصفى الذى يعد من المدرسة الحديثة التى تزعمها الشيخ محمد عبده. فى هذه المرحلة وما سبقها اتصل طه حسين اتصالا جيدا بالتراث العربى والأدب الشعبى. وتصادف فى هذا التاريخ تأسيس الجامعة المصرية الأهلية، فالتحق بها فى 1909، وحصل فى 1914 على شهادة الدكتوراه عن حياة أبى العلاء المعرى بدرجة جيد جدا. وتلا هذه المرحلة التقليدية فى حياة طه حسين، ما بين الأزهر والجامعة الأهلية، بعثته الى فرنسا لاستكمال دراساته الأدبية والفلسفية. ونال من جامعة السوربون فى 1917 دكتوراه الدولة بامتياز عن "ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية" ولا ينسى المؤلف أن يذكر أن طه حسين وهو فى الباخرة فى عرض البحر، فى طريقه الى فرنسا، خلع الزى الأزهرى وارتدى الزى الأفرنجى، تعبيرا عن انتقاله من القديم الذى يضيق به ممثلا فى الزى الشرقى، إلى الحديث الذى يتطلع اليه ورمزه الذى الغربى ولو أن طه حسين كان يؤمن فى مسيرته المتقدمة، بأن إزالة الفروق بيننا وبين أوربا لا يكون فى المظهر. ويفرد ميخائليذس فصلا من كتابه عن لقاء طه حسين فى فرنسا بشريكة حياته سوزان، وما اعترض العلاقة الناشئة بينهما من مصاعب انتهت بزواجه منها فى أغسطس 1917.ويختم ميخائليدس كتابه بالحديث عن الرحلة التى قام بها طه حسين مع زوجته الى اليونان فى مارس 1951، بدعوة من الحكومة اليونانية ويصف المؤلف احتفال ملك اليونان بطه حسين، ومنحه وسام فنيكس من الطبقة الأولى، كما يصف بحفاوة احتفال جامعة أثينا به، التى منحته الدكتوراه الفخرية، والقاء طه حسين كلمة ضافيه عن الصلات التاريخية بين مصر واليونان وقبل أن يغادر طه حسين اليونان، ألقى فى ذاعتها باللغة العربية.