سوف أكتب عنهما السادات وعبدالناصر كل في عيد ميلاده, فلو عاشا لكان كلاهما قد تجاوز التسعين من عمره, ولابد أن أعترف في البداية أن لدي مشكلة حقيقية تجاههما, لأن مشاعري مع عبدالناصر ولكن عقلي مع السادات, وأسجل هنا أنها تركيبة غريبة أعانيها كلما كتبت عنهما, أو قارنت بينهما, وإذ أكتب اليوم عن محمد أنور السادات, فإنني أكتب عن عقلية مضيئة لصاحب رؤية بعيدة, ولا أكاد أجد بين سابقيه من حكام مصر من يقترب من طرازه إلا محمد علي الكبير, فكلاهما كان خبيرا في اللعب بالمتغيرات الدولية, واستخدام المواقف الإقليمية, ثم إن حركة التصحيح التي أطاح فيها السادات ببقايا العصر الناصري, وفلول اليسار المصري لكي ينفرد بالسلطة في15 مايو1971, هي نسخة بيضاء بغير دماء لمذبحة القلعة الحمراء عام1811 التي تخلص فيها محمد علي من المماليك, خصومه ومنافسيه, لينفرد بحكم مصر بعد ذلك. ولابد أن أقرر هنا أن قراءتي لعصر السادات هي قراءة طالب العلوم السياسية بحكم التخصص, وليست قراءة المؤرخ بمنطق الأحداث, لكننا إذا تأملنا التاريخ العريق لتلك الشخصية الرحبة فإننا نتلمس منها المظاهر الآتية: أولا: إن تاريخ السادات قبل يوليو1952 تاريخ معروف, فلم تعرفه الناس لمجرد إذاعة بيان الثورة, لكنه كان اسما لامعا في تاريخ الحركة الوطنية منذ بداية أربعينيات القرن الماضي, ويكفي أن نتذكر أنه لم يلبس الكاكي بشكل متصل منذ تخرجه في الكلية الحربية عام1939 حتي قيام الثورة عام1952 إلا لمدة عام ونصف عام, وما عدا ذلك فقد كان هو أنور السادات الذي يصلح جهاز التشفير في عوامة حكمت فهمي لمساعدة الألمان أعداء الحلفاء في الحرب العالمية الثانية كراهية منه في الإنجليز بمنطق أن عدو عدوي صديقي, وهو الذي حاول المشاركة في المغامرة التي دبر لها الفريق عزيز المصري بالطائرة التي سقطت في قليوب, وكان هدفها الوصول إلي خطوط القتال في العلمين, وفتح قناة اتصال مباشرة مع قيادة روميل, وهو أيضا أنور السادات الذي شارك في اغتيال أمين عثمان وزير المالية الذي كان يتحدث عن الزواج الكاثوليكي بين مصر وبريطانيا. ثانيا: إن الدور الوطني لأنور السادات يصعب إنكاره, فقد كان الرجل عضوا في تنظيمين مختلفين في وقت واحد, فقد كان قريبا من مجموعة ضباط الحرس الحديدي, وفي الوقت نفسه عضوا مهما في حركة الضباط الأحرار, مع ولاء مطلق للأخيرة, بل إن منشورات الحركة وصلت إلي مكتب الملك فاروق من خلال صداقة أنور السادات بالضابط الطبيب يوسف رشاد وقرينته الراحلة ناهد رشاد وصيفة الملك, ولقد سمعت منها ذلك مباشرة عندما كنت قنصلا لمصر في لندن عام1971 حينما أوفدها الرئيس السادات للعلاج هناك بقرار طبي مضاعف القيمة تكريما لتاريخها الوطني, وسمعت منها الكثير عن البطولات المنسية لذلك الرئيس المصري الراحل, حتي قالت لي إنه عندما قامت الثورة لم يكن الناس يعرفون من بين ضباط الحركة إلا قائدها محمد نجيب مدير حرس الحدود, وممثل تيار الأغلبية في الانتخابات الأخيرة لنادي الضباط, والبكباشي أنور السادات الثائر الوطني المشاغب الذي اشتغل بالصحافة حينا, وخالط المثقفين دائما, وكان هو أيضا الحاج محمد نور الدين عتال السيارات المتخفي مناضلا من أجل غايات وطنه, وأهداف شعبه. ثالثا: إن الذين يشككون أحيانا في وطنية السادات أو قوميته, بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد, يظلمونه ويظلمون معه مدرسة معترفا بها في الفكر السياسي المعاصر. فأنور السادات اجتهد بقدر ما أتيح له من رؤية, وحاول الخلاص بشعبه المصري وأمته العربية أيضا التي خذلته وخونته بدلا من أن تعطيه الفرصة وفقا لفلسفة توزيع الأدوار بين التيارات والأفكار داخل الجبهة الواحدة لأصحاب القضية المشتركة, وأنا أظن مخلصا أن العرب لو كانوا قد أوقفوا هجومهم ضده والتطاول عليه وتجريم خطوته لحصلنا, عربا وفلسطينيين, علي ما هو أفضل بكثير مما نحن عليه الآن, خصوصا أن ما لا يدرك كله لا يترك كله, كما أن من اجتهد وأصاب فله أجران, ومن اجتهد وأخطأ فله أجر المحاولة. ولست أشك في أن السادات كان صاحب رؤية شاملة, ونظرة عميقة, فلقد جاءه ذات يوم مسئول إسرائيلي كبير يطلب منه, في إطار روح السلام وأجواء كامب ديفيد, تسليم جاسوسة مصرية شهيرة لإسرائيل كان محكوما عليها بالإعدام ولم يكن قد تم تنفيذه, لكن السادات بسرعة بديهته, ودهائه المعتاد تظاهر بالأسف أمام المسئول الكبير مدعيا أنه قد تم تنفيذ الحكم فيها منذ يومين فقط, ثم همس في أذن أحد مساعديه يطلب تنفيذ الحكم فورا, خصوصا أنه كان قد تم التصديق عليه, وهذه واقعة تؤكد مرة أخري تجرده الوطني, وإيمانه بعدالة قضية أمته, لأنه لو كان غير ذلك لقدم لإسرائيل تلك الهدية التي كانت تبدو مهمة بالنسبة لهم حينذاك. رابعا: إن خطوة زيارة القدس, أو ما عرف بمبادرة السادات لم تكن خطيئة في حد ذاتها, خصوصا أن الرجل قد زار دمشق قبلها وعرض علي رفيق السلاح الرئيس حافظ الأسد خطوته المقبلة التي لم يوافقه عليها, لكنه حمي الرئيس المصري من محاولة لاعتقاله في مطار دمشق من جانب بعض المتشددين في الحزب الحاكم في سوريا, لأن حافظ الأسد أدرك بحكمته أن ذلك سوف يوجد صداما مروعا بين بلدين لديهما خصوصية تاريخية في العلاقة القومية بينهما.كذلك فإن الرئيس السادات قد أطلع الجانب السعودي علي خطته, وهم وإن لم يوافقوا عليها فإنهم كانوا أكثر صبرا معه حتي إن التليفزيون السعودي قد نقل بالبث المباشر وصول السادات إلي القدس, كما أن بعض الأمراء الكبار قد زاروه بعد مبادرته في محاولة لفهم ما يدور, وترشيد الموقف قدر الإمكان, لكن التيار العربي الغالب كان معاديا مخونا رافضا, حتي إن الفلسطينيين قاطعوا اجتماع مينا هاوس الذي ترأسه الدبلوماسي المصري المخضرم الدكتور عصمت عبدالمجيد, ورفع فيه العلم الفلسطيني جنبا إلي جنب مع مسلسل الفرص الضائعة في تاريخ القضية الفلسطينية, ولحسن الحظ فإن الرئيس السادات لم يمس ثوابت القضية العربية, واكتفي بالتركيز علي تحرير سيناء, وإن كان الثمن هو خروج الجيش المصري من المعادلة العسكرية للصراع العربي الإسرائيلي. خامسا: سوف يذكر التاريخ لأنور السادات أنه كان صاحب القرارات الصعبة, خصوصا قراري الحرب والسلام, ولو لم يكن في سجله إلا حرب أكتوبر الظافرة فإنها وحدها تكفيه, ولكن الرجل كان جسورا عندما يقرر مؤمنا بما يفعل, ماضيا في طريقه بغير تردد, فقد اتخذ قرار طرد الخبراء السوفيت في خطوة مفاجئة بعد أن كان قد وضع مع موسكو اتفاقية صداقة لم يوقعها عبدالناصر نفسه, واختار السادات من يثق فيه الروس وزيرا للخارجية, وأعني به الدبلوماسي الراحل الدكتور مراد غالب, فقد كان الرئيس السادات بارعا في إعطاء إشارة تجاه اليسار ليمضي هو نحو اليمين. إنه رجل دولة من طراز خاص يصعب التنبؤ بما سوف يفعل في كثير من الأحيان. تلك بعض خواطري أسطرها في ذكري يوم مولده الحادي والتسعين, وأتذكر عندها قيمة الرجل ومكانته في وقت تخرج فيه أوراق السادات علي يد كاتبه المفضل الأستاذأنيس منصور, ثم إنها خواطر دارت برأسي وأنا ألتقي بوحيده جمال, الذي أعرفه منذ سنوات طويلة نموذجا للخلق الرفيع, والتواضع الزائد, والأدب الجم. رحم الله السادات بقدر ما أعطي واجتهد, وسوف نحتفل في مقالنا المقبل بالعيد الثاني والتسعين لميلاد جمال عبدالناصر, لأن أمة لا تعرف قدر زعمائها لا تعي أبدا تاريخها, ولن تفهم مطلقا حاضرها, ولن تتقدم نحو مستقبلها.