مدت يدها تفتح نافذة غرفتها، لتستقبلها نسمة هواء باردة، جعلت خصلات شعرها الكستنائى تعلن عن ثورتها فى كل اتجاه.. نظرت إلى الناحية المقابلة لها.. نظرها يعبر الحد الفاصل بينهما.. رأته ينظر إليها مبتسما ابتسامة صغيرة.. لوح لها بيده.. تقرأ سلاما صامتا على شفتيه.. توقفه بنظرة استعلاء، وتتمنى لو كانت قادرة على غلق النافذة فى وجهه. أعطته ظهرها بكبرياء، ثم جلست على مكتبها واضعة كتبها الدراسية أمامها.. ألقت بكامل روحها وسط أطنان الكلمات والجمل.. كانت تحين منها التفاتة ناحيته، بين الحين والآخر.. مازال يراقبها من نافذته، لن تنحنى لسطوته.. يعود إلى داخل غرفته، مع بدء دخول الظلام، وبعدما أدركه اليأس.. مدت يدها إلى مفتاح إضاءة الغرفة لتنيرها.. النور الأبيض الاصطناعى يفترش الجدران.. ثوان ثم أضيئت أيضا غرفته، السباق اليومى يبدأ بينهما الآن، سحبت نفسا قويا وعميقا، ثم عادت لطحن وهضم المعلومات. كلاهما فى الثانوية العامة وكلاهما ينافس الآخر على المركز الأول، العام الماضى تفوق عليها بفارق ضئيل، هذا العام لن تقبع خلفه، لن يكتب اسمها وراء اسمه مرة أخري. تكره ابتسامته.. كثيرا ما ينتصر فى سباقهما اليومي، اليوم هى عازمة على أن تهزمه.. أن تنتصر.. أن تفوز. الساعات تمر.. وتمر.. وتمر. تجرعت كوب قهوة مركزة، لتقاتل الساعات، ولتزيد من تحملها.. عدلت من وضع نظارتها الطبية أمام عينيها الواسعة، ثم نظرت ببطء نحو شباك غرفته المضاء، مازال يقاتلها، حرب باردة تدور بينهما. كوب ثانٍ من القهوة، لم يعد يأتى بفائدة.. النعاس على وشك أن يرفع علامة النصر فوق رأسها.. الإرهاق بلغ منها مبلغه. مدت يدها إلى مفتاح الإضاءة لإغلاقه.. على وشك أن تعلن استسلامها. حانت منها التفاتة ثانية ناحيته.. تراه يرقص كالمهرج، على أنغام إحدى الأغانى الحديثة.. يفعل ذلك دائما لتشجيع نفسه على الاستذكار. سحبت يدها بسرعة من فوق مفتاح الإضاءة.. هوت بقبضتها غاضبة فوق إحدى الكتب.. نفس عميق، ثم عادت للكتب. الوقت يمر بطيئا، يدور فى دوائر تجعل رأسها يدور.. عادت تلتفت بعد حين نحو نافذته.. زجاجها المضيء يعلن عن بقائه وتصميمه على الفوز. ألا تتعب؟..ألا تستسلم؟.. استسلم بالله عليك. تريد أن تصرخ عليه بذلك، لم يعد مقبولا أن يظل مستيقظا هكذا.. تتخيله فى الداخل وهو يبتسم ساخرا منها، بقعة مظلمة تظهر فجأة أمام عينيها، مؤشر انتصارها يتحرك الآن.. أعلن استسلامه أخيرا. رأته يغلق نافذته بعدما أطفأ الأنوار.. قلبها يكاد يقفز من مكانه فرحا.. ودت لو كان بإمكانه أن يراها وهى تخرج له لسانها الآن، تريد أن تصيح: - أنت لم تر شيئا بعد... كم أنا رائعة ... أنا رائعة. يا لها من نهاية رائعة لهذا اليوم، استمرت فى المذاكرة لبضع دقائق أخرى لتؤكد انتصارها، قبل أن تنهض من مقعدها بإرهاق شديد، وتمد يدها نحو مفتاح الإضاءة وتغلقه. اليوم التالي.. عادت من مدرستها مبكرا، شيء ما قد حدث، الشارع يبدو حزينا.. نظرت نحو منزله، ترى الدموع متحجرة فى عيون والده.. غصة تتوقف فى حلقها، وتعجز عن ابتلاعها.. يد باردة تعتصر قلبها وترفض إفلاتها.. مات.. مات فى حادث منذ ساعة عند عودته. صعدت مسرعة إلى غرفتها.. فتحت نافذتها.. تمنت لو رأته واقفا كما اعتاد.. لا تصدق انه مات.. تتذكره وهو يلوح لها. عبارات التعازى تصل إليها بلا توقف.. تتقبل العزاء فى سرها. يعود الليل ليسدل ستارته الكئيبة.. ضغطت مفتاح الإضاءة، لتنير غرفتها.. حاولت أن تلقى بهمومها وسط أوراق الكتب الباردة. نافذة غرفته المظلمة قابعة فى ركن من عينيها.. التفتت شاردة، صمت الكون من حولها يكاد أن يقتلها. لا يوجد تنافس اليوم.. انتهي.. انتهت المنافسة.. انتهى كل شيء. لا تشعر بالوقت أو بنفسها، كل شيء من حولها يصبغه الحزن بلونه، حتى الهواء البارد الذى يدخل صدرها يخرج وقد اكتوى بحزنها. ترقرقت الدموع فى عينيها.. تجمعت أسفل مقلتيهما، وكأن هناك سدا قويا يمنعها. دمعة صغيرة سقطت ببطء، فوق إحدى صفحات الكتاب الذى أمامها، فصنعت بقعة مائية، وافترشت الصفحة، قبل أن تختلط بالحبر الأسود، وتشوه الكلمات المطبوعة. حاولت مسح دموعها بيديها، إلا إنها فشلت.. ألقت نظرة أخيرة تجاه غرفته، ثم مدت يدها نحو مفتاح الإضاءة و.. وأطفأته.