أسباب ومناسبات وتطورات عديدة تطرح على الإسرائيليين وعلينا السؤال الذى كان مطروحا منذ مائة عام وسوف يظل مطروحا إلى أن نصل فيه إلى الجواب الشافي: ما هو مصير إسرائيل؟ نحن نحتفل فى هذه الأيام بالذكرى الثانية والأربعين لانتصار أكتوبر الذى يكشف لنا يوما بعد يوم عن معان وأبعاد لم تتكشف مرة واحدة. انتصار أكتوبر وضع الصراع العربى الإسرائيلى فى إطاره الصحيح، فالحرب الناشبة بيننا وبين المشروع الصهيونى كر وفر، أخذ ورد. الصهيونيون انتصروا فى ثلاث حروب متوالية حتى بدا وكأنهم مدعومون بقوى خارقة وأنهم لا يعرفون إلا الانتصار، وأننا لا نعرف إلا الهزيمة. لا. انتصار أكتوبر أعاد الصراع إلى مكانه فى الواقع الإنسانى بشروطه التى لا تسمح بوقوع المعجزات وبمقدماته التى تفرض نتائجها على الجميع. وإذن فلابد أن يعيد الإسرائيليون النظر فى حساباتهم وأن يسألوا أنفسهم عن مصير دولتهم لا بناء على ما يقرأونه فى التلمود أو يسمعونه فى خطب نيتانياهو أو ينتظرونه من القوى الخارقة بوصفهم شعب الله المختار، بل بناء على ما يرونه ويلمسونه فى الواقع. من ناحيتنا نحن أيضا مطالبون بإعادة النظر فى حساباتنا. لقد كنا دائما مؤمنين بأن فلسطين لأهلها الفلسطينيين، وبأن إسرائيل وجود باطل قائم على غير أساس، فليس أمامنا إلا أن نمسحه من الخريطة، ونعيد الحق إلى نصابه والأرض إلى أصحابها. وقد تبين لنا أن المسألة ليست بهذه البساطة ولا بهذه السهولة. لأن الصهيونيين الذين اغتصبوا فلسطين أذكياء وأقوياء ومزودون بكل الأسلحة التى تمكنهم من تزييف الواقع وتضليل العالم. فهم الذين اغتصبوا فلسطين أصحاب الحق فيها. وهم الذين دمروا وجود الشعب الفلسطينى محاصرون فى المنطقة كما يدعون يواجهون عداء العرب وتهديداتهم ويناشدون العالم أن يهب لمساعدتهم فى حرب الإبادة المسلطة عليهم. وقد نجحوا فوقف العالم إلى جانبهم، لأن العالم ليس ساحة عدل، وانما ساحة اطماع ومصالح تتضارب وتتصارع وتفرض منطقها، ومن هنا انتصرت إسرائيل علينا مرة ومرات ففوجئنا بانتصارها مع أننا أصحاب الحق، وداخلنا الشك فى قدراتنا، ولم نعد واثقين من شيء، وإذا بنا نحقق النصر الذى حققناه فى أكتوبر فيظهر فينا من يستكثره علينا وينسبه لقوى خارقة حاربت الإسرائيليين بدلا عنا، ولولاها لانهزمنا فى هذه المرة أيضا كما انهزمنا من قبل! لا. نحن الذين حاربنا فى أكتوبر وانتصرنا، لأن الحرب كانت قرارنا نحن ولم تكن خطبة أو شعارا أو قرارا نتلقاه فنمتثل له دون أن نشارك فيه أو نعرف أوله من آخره. ونحن الذين حاربنا فى أكتوبر وانتصرنا لأننا كنا قبل أكتوبر مهزومين، ولأننا كنا نريد أن نحمى شرفنا ونسترد أرضنا التى احتلها الإسرائيليون الذين انهزموا لأنهم يقفون على أرض ليست لهم، ولأنهم انتصروا مرات بغير حق فأصبحوا يتجاهلون الواقع ولم يعودوا قادرين على رؤيته وتقدير ما يمكن أن يخفيه ويفصح عنه ويؤدى إليه. ولهذا انهزموا فى أكتوبر فعاد الصراع إلى مكان فى الواقع لنراه صراعا طويلا ممتدا لا يحسمه الحق وحده، وإنما تحسمه شروط الواقع التى فرضت نفسها على الإسرائيليين كذلك فأصبحوا يتساءلون عن مصيرهم إلى الحد الذى أدى إلى أن تظهر فى ربع القرن الأخير جماعة من الكتاب والمؤرخين الذين حرروا أنفسهم من العقائد والمطلقات الصهيونية وأخذوا يقرأون التاريخ من جديد قراءة موضوعية ليجيبوا على السؤال، ومن هؤلاء أورى وزولى ouri wesoly الذى ألف فى الذكرى الخمسين لقيام إسرائيل كتابا يجيب فيه عن هذا السؤال الذى جعله عنوانا له: «هل ستبقى إسرائيل حتى عام 2048؟» أى حتى تحل الذكرى المائة لقيامها؟ ونبرة التشاؤم واضحة فى هذا الكتاب الذى اقتبس صاحبه عنوانه من عنوان كتاب لمؤلف روسى سوفيتى أصدره عام 1970 بعنوان «هل سيبقى الاتحاد السوفيتى موجودا فى عام 1984؟». مع أن الظروف السياسية فى الوقت الذى صدر فيه هذا الكتاب لم تكن تشير إلى أزمة خانقة يواجهها الاتحاد السوفيتى ويمكن أن تؤدى إلى سقوطه، ومع أن الواقع على العكس من ذلك كان يدعو للثقة والطمأنينة، فالاتحاد السوفيتى دولة قوية، والمعسكر الاشتراكى يحيط به، والعالم الثالث يرى فى وجوده ضمانا للتوازن ومانعا يمنع الأمريكيين من الانفراد بكل شيء مع هذا كله استطاع مؤلف الكتاب أن يرى ما تحت السطح الهاديء الخادع ويقرأ النتائج من المقدمات، ثم يطرح السؤال ويحدد الوقت الذى يتوقع فيه أن يسقط الاتحاد السوفيتى فلا يبتعد كثيرا عن الوقت الذى سقط فيه بالفعل وهو عام 1989 الذى شهد أيضا سقوط حائط برلين. وربما حدثتكم فى مقالة قادمة عن كتاب صدر قبل بضع سنوات لمؤرخ إسرائيلى اسمه شلومو ساند chlomo sand بعنوان «كيف تم اختراع الشعب اليهودى!» وهو فى هذا الكتاب يشكك فى كثير مما يقوله اليهود ويؤمنون به عن أنفسهم ويفرضونه على غيرهم بما يملكون من قدرات ومؤسسات ووسائل تحول الأكاذيب إلى حقائق ومسلمات. وها نحن نحتفل بالذكرى الثانية والأربعين لانتصار أكتوبر، ونحتفل معها برفع العلم الفلسطينى على مبنى الأممالمتحدة، أى باعتراف العالم كله ممثلا فى المنظمة الدولية بالفلسطينيين كشعب له الحق فى دولة تقوم على أرضه التى اغتصب الإسرائيليون معظمها، ثم احتلوا ما بقى منها واقاموا فيه مستعمراتهم مزمعين ضمه إلى ماسبق اغتصابه ليحولوا اسطورتهم الدينية إلى واقع ويقيموا دولتهم التى يريدون أن تمتد من النيل إلى الفرات، تماما كما يسعى داعش لإحياء خلافة الأمويين والعباسيين التى تمتد من أسبانيا إلى الصين. وهكذا يمضى الواقع وتتغير معطياته ويرد بعضها على بعض، لا على نحو آلى كما قد يتصور بعضنا، ولكن على نحو موضوعى أى أخلاقى تنتصر فيه الحقائق على الأكاذيب لأن الحقائق لا يخترعها أحد، وانما ينتجها الواقع والتاريخ. ومن كان يتصور أن يرتفع علم فلسطين على مبنى الأممالمتحدة فى هذه الأيام التى لا يبدو فيها أن الفلسطينيين استطاعوا أن يتفقوا، وأن يتوحدوا وأن يقدموا أنفسهم للعالم بصورتهم الحقيقية التى نعرفها حين نقرأ شعر محمود درويش؟! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي