مثل انسحاب المكتب الهولندى من المشاركة فى إجراء الدراسات الفنية لسد النهضة الإثيوبى فى أواخر الشهر الماضى، فرصة جديدة للمماطلة الإثيوبية ولنهجها التفاوضى المستند على اكتساب الوقت، كما مثل نجاحًا لسياسة الأمر الواقع التى اتبعتها منذ الإعلان عن بناء السد فى أبريل 2011، وتحديًا حقيقيًا للنهج المصرى التعاونى الداعم لتبريد ملف الأمن المائى وتجاوز نتائج وانعكاسات اتفاق عنتيبى (14مايو 2010). وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن البدائل المصرية، فى ظل تهديدات حقيقية للأمن المائى المصرى تترجمها المخاطر المباشرة للسد من حيث التأثير على حصة مصر التاريخية (55.5 مليار م3) والتحكم فى توقيت وكمية المياه الواردة لمصر، وتجاوز الحقوق التاريخية، وفى ظل تحديات غير مباشرة تطرحها دلالات هذا النهج الإثيوبى وسياساتها فى القارة، لاسيما فى منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي، فضلاً عما تمثله المحادثات الراهنة ومستقبلها من واقع كاشف ومرآة عاكسة لمستقبل التعاون المائى فى حوض النيل، فملف سد النهضة رغم خطورته إلا أنه يمثل محددا واحدا فى ملف ملئ بالعديد من المحددات والتشابكات المرتبطة بملف التعاون مع دولة واحدة من دول حوض النيل. هذه التحديات والمخاطر التى تتماس مع الأمن القومى المصرى تثير بدورها الحديث عن حدود إمكانية الاستمرار فى تغليب النهج التعاونى على النهج الصراعى أو التنافسي، والحديث عن توقيت اللجوء إلى سيناريوهات التصعيد المصرية التى تمتلكها وهى عديدة ومؤثره سواء فى أهدافها المباشرة أو غير المباشرة، ولكن الحقيقة أن المتابع للتحركات المصرية والمتفهم لفلسفتها فى المحادثات يرصد إصرارًا مصريًا على استمرار المحادثات ومحاولة بناء الثقة وانتهاج مسار تراكمى فى العلاقات (كما تعكسه وثيقة المبادئ الموقعة فى مارس 2015). ولكن ذلك لا يعنى القبول بنتائج الأمر الواقع الذى تنتهجه إثيوبيا، أو القبول بتهديد الأمن المائى المصري، أو الانتقال إلى سياسة حافة الهاوية، فالموقف المصرى يستند إلى الموازنة النابعة من تفهم اللحظة الراهنة التى تمر بها الدولة المصرية من ناحية، وإدراك حجم التشابك بين المواقف الإثيوبية والسودانية فى ملف السد والعديد من الملفات الأخرى فى منطقة القرن الافريقي، وحوض النيل من ناحية ثانية. كذلك يستند الموقف المصرى إلى تقدير التكلفة فى ضوء أن الهدف الأصيل والرئيسى لمصر هو التعاون لكى يمكن زيادة حصتها من المياه فى المستقبل من ناحية ثالثة. من هنا، يجب العمل على امتلاك أوراق الضغط، واللجوء للضغوط التصعيدية داخل إطار التعاون، وكسر الحلقة المفرغة من المحادثات بالانتقال إلى مرحلة التفاوض السياسى وفقًا لجدول زمنى محدد، لاسيما وأن المتوقع أن تنتهى المرحلة الأولى من السد فى أكتوبر 6102 بتشغيل أول توربين فى السد، وهو ما يعنى بد عملية تخزين المياه فى البحيرة. ورغم صعوبة القبول الإثيوبى بالدخول فى مفاوضات أوسع وأشمل من مجرد محادثات فنية، فإن التحركات المصرية المطلوبة يجب أن تكون سريعة وضاغطة ومستندة إلى الرصيد الدبلوماسى والسياسى الذى تحقق خلال المرحلة الماضية فى العديد من الملفات المتقاطعة ولو بشكل غير مباشر مع ملف التعاون فى حوض النيل، فمتطلبات تغيير بيئة المحادثات لا مفر منها حتى توفير الحافز أو الضغوط للجلوس على مائدة المفاوضات مع مصر، وأن يتحول ملف سد النهضة ليكون جزءًا من معادلة التعاون أو الصراع بمستوياته المتعددة، مع الاستمرار فى المحادثات لإظهار التعنت الإثيوبى وكسب الرأى العام الافريقى والعالمى والمؤسسات الدولية والإقليمية.