مثّل ملف الأمن المائى ومتطلبات إعادة صياغته، واحدا من أبرز الملفات التى فرضت نفسها على الرئيس عبد الفتاح السيسى وسياسة مصر الخارجية منذ توليه القيادة قبل عام. فبحكم تعدد وتشابك هذا الملف كانت متطلبات إعادة صياغة الموقف التفاوضي المصري حتمية لمواجهة العديد من المحددات التى صاغت مشهد التفاعلات حول سد النهضة بامتداداته وتداعياته ليس على الأطراف المباشرة (مصر، وجمهورية السودان، وإثيوبيا) فقط، ولكن على باقى دول حوض النيل ومستقبل التعاون المائى. ولذا كان التعامل مع واقع فرضه سد النهضة الإثيوبى من حيث تجاوز حق مصر فى الإخطار، ورفع السعة التخزينية من 14 مليارم3 إلى 74 مليارم3 مستغلاً حالة عدم الاتزان التى كانت تمر بها مصر وقت الإعلان عنه (فى أبريل 2011) من ناحية، وضرورة لكسر الدائرة المفرغة من المحادثات (نوفمبر وديسمبر 2013، ويناير 2014، وأغسطس 2014) حول تأثيرات السد فى ظل استمرار عملية بنائه من ناحية ثانية، وموقف سودانى منحاز للموقف الإثيوبى أو على أعلى تقدير وسيط يسعى لتقريب وجهات النظر من ناحية ثالثة. فى ضوء هذه المحددات، بدت هناك الكثير من الملامح والأخطار فى خلفية الصورة، تسهم فى رسم المزيد من تعقيدات الصورة وتشابكاتها بالقدر الذى يصعب معه اختزال التحرك المصرى باتجاه ملف السد فقط، فالسد كان مجرد عنوان ومرآة عاكسة لحجم التحدى والمخاطر التى تحيط بمصالح مصر داخل منطقة حوض النيل والقرن الافريقى. انطلاقًا من هذا الإدراك، فقد استند التحرك المصرى إلى الاستخدام المكثف للدبلوماسية وتبنى خطاب داعم للتعاون وتجنب الأفعال أو الأقوال «الخشنة» وذلك انطلاقًا من صياغة أوسع للتحرك المصرى تجاه إفريقيا لتجاوز تأثيرات تعليق عضويتها فى الاتحاد الأفريقى. لذا كان الحرص على تضمين التحرك المصرى الكثير من الرسائل الإيجابية التى ترجمتها بوضوح نتائج اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي «هيلي ماريام ديسالين» على هامش القمة الأفريقية في «مالابو» عاصمة غينيا الاستوائية فى يونيو 2014، حيث أفرز اللقاء عن تدشين اتجاهات جديدة حاكمة لإطار المحادثات ودفعها نحو الدخول فى مفاوضات أكثر جدية برزت فى جولة المباحثات الرابعة (أغسطس 2014)، وفى البيان الختامي للقاء بركائزه الخمس التى بدت أنها ديباجة حاكمة لاتفاق المبادئ الذى وُقِع فى 23 مارس 2015 بين الدول الثلاث مصر وجمهورية السودان وإثيوبيا، وترجمة للمنهج المصرى الجديد فى التعامل مع سد النهضة بقدر أكبر من الواقعية والحرص على تقديم صيغة جديدة للتعاون ومخاطبة الرأى العام الإثيوبى والافريقى والدولى. وبطبيعة الحال فقد أثار البيان نفس المحاذير والمخاوف التى تكررت مع اتفاق المبادئ، لاسيما تلك المتعلق بنجاح سياسة الأمر الواقع الإثيوبية، مقابل التساؤل عن الخيارات المصرية والبدائل وحجم تكلفتها. من هنا يمكن التأكيد، أن أزمة سد النهضة يمكن أن تمثل نموذجًا لمستقبل التعاون المائي بين دول حوض النيل، وأن يمثل تطور المنهج المصرى للتعامل مع ملف الأمن المائي نموذجًا ونهجًا لتفكيك الكثير من القيود والحسابات الخاطئة التى أحاطت بملف التفاوض منذ عام 2007 في إطار مبادرة دول الحوض وما أسفرت عنه من اتفاق عنتيبى (مايو 2010) الذى ترفضه مصر، وأدى لقيام مصر بتجميد عضويتها فى المبادرة رغم حضورها الاجتماع الأخير للمتابعة فقط. كما يمكن النظر للنهج المصرى ومبادرته فى إطار رؤية أوسع لمعالجة قضايا التنمية كسبيل لتحقيق الأمن الإنساني والغذائى، وانطلاقًا من متطلبات تفرضها درجات التشابك بين كثير من القضايا المطروحة على أجندة القارة الافريقية، لاسيما تلك المتعلقة بقضايا التنمية والسلم والأمن. ولكن فى المقابل يجب أن تدرك إثيوبيا أن سياسة التعنت والتسويف وكسب الوقت، يمكن أن تضيع فرص التعاون والمبادرة المصرية، فمن الملاحظ أن المحادثات التى تحيط بعملية الاتفاق على المكتبين الاستشاريين الدوليين، تشير إلى استمرار النهج الإثيوبى، كما أن إعلان المبادئ ببنوده العشرة يشير إلى تباين واضح فى الرؤيتين المصرية والإثيويبة، رغم الخطاب الرسمى الإيجابي الذى أحاط بعملية التوقيع، فكان التأكيد على صعوبة المفاوضات وحاجة بعض البنود لاتفاقيات حتى تتحول لواقع، الأمر الذى يشير إلى أهمية المرحلة المقبلة والتى يمكن أن تمتد إلى خمسة عشر شهرًا. ضمن هذا الإطار الزمنى يمكن التأكيد أن بناء الثقة وتعزيز فرص التعاون بين مصر وإثيوبيا سوف يرتبط بعدم الإضرار بحصة بمصر، وأيضًا بمدى الأفق الذى يمكن أن يوفره اتفاق المبادئ، مع الأخذ في الاعتبار عدد من النقاط، منها: عدم التفريط في أى كمية من حصة مصر المائية، لا سيما مع تزايد العجز المائي المصرى إلى نحو 25 مليارم3، وثبات حصة مصر منذ عام 1959 وعدم امتلاك مصر لبدائل مائية كما هو متوافر لدى غيرها من دول حوض النيل، حيث إن حصتها من مياه النهر تمثل المصدر الرئيسي والأساسي لتلبية احتياجاتها من المياه، والتأكيد على مشروعية المخاوف المصرية بشأن التأثيرات السلبية لسد النهضة سواء بالنسبة لسعة التخزين أو ملء وتشغيل السد، وبالتالي أهمية إيجاد آليات للتعاون في الملء الأول وإدارة السد، وتنفيذ توصيات التقرير النهائي للجنة الخبراء الدولية، واحترام المخرجات النهائية للدراسات الخاصة بتأثيرات السد. فمحددات الموقف المصرى رغم المرونة والنهج الجديد، تكشف أيضًا أن هناك العديد من المهام الكبرى يجب انجازها، حتى يمكن التوصل إلى حل «توافقى» حول سعة مناسبة للسد تضمن عدم الإضرار بأمن مصر المائي وإمكانات التعاون لاستقطاب الفواقد المائية وزيادة الاستفادة من مياه النهر لتعويض أى ضرر من السد الإثيوبى للحصة المائية المصرية، وتفعيل أطر التعاون بين دول حوض النيل للوصول إلى اتفاق قانوني ومؤسسي لتنظيم عملية إدارة التعاون المائي، وإيجاد منظومة رابطة للسدود على طول النهر، والموازنة بين متطلبات توليد الطاقة والاحتياج للمياه. هذه المهام الكبرى تتطلب بدورها إعادة التفاوض حول النقاط الخلافية التى تضمنها اتفاق عنتيبى والمتعلقة بحقوق مصر التاريخية (حق الإخطار، وآلية التصويت، ومفهوم ومتطلبات الأمن المائي التى ترتبط بحصة مصر). فإن تلك المهام الكبرى تتطلب بدورها إدراكًا مصريًا بأن سد النهضة هو واحد في ملف ممتلئ بالعديد من المحددات والتشابكات المرتبطة بملف التعاون مع دولة واحدة من دول الحوض ال 11، وأن معادلة التعاون تتطلب بلورة رؤية وآليات لا تستند فقط على الاستخدام الكثيف للدبلوماسية، ولكن على تحديد مجموعة من المسارات والقضايا التى من شأنها إعادة التوازن للسياسة المصرية الافريقية وربطها بالمصالح القومية وأولوياتها. بمعنى أدق إن الخروج من مأزق سد النهضة الإثيوبي لن يكون سهلاً ولكن عبر طريق شاق من التفاوض وجزء من معادلة التعاون والصراع والتنافس التى تحكم رؤية وطموح أطراف تلك المعادلات. لمزيد من مقالات أيمن السيد عبد الوهاب