عندما تقلَّد عبد الفتاح السيسى منصب رئيس الجمهورية كان ملف المياه من أهم الملفات الخطيرة التى كان عليه أن يتصدَّى لها، ولم يكن ذلك سهلا، لأن الانفلات الأمنى بما له من تداعيات على كل الأصعدة الاجتماعية والسياسية كان يفرض نفسه كأولوية قصوى. وكان الملف شائكا، خصوصا لأن قضية المياه تحوَّلت إلى أزمة سياسية، بعد أن عقد الرئيس المعزول محمد مرسى، اجتماعا رئاسيا يخصّ الأمن القومى فى يونيو 2013، كان من المفروض أن يكون «سريا»، لكنه كان يذاع مباشرة على الهواء! ومع الأسف، تبارى الحاضرون فى ابتكار وسائل متعددة لإخضاع إثيوبيا للمطالب المصرية، كان منها ما يُمثِّل انتهاكا صارخا لسيادة إثيوبيا على أراضيها، وتدخلا غير مشروع فى شؤونها الداخلية وإثارة القلاقل الداخلية، وتأليب دول الجوار على إثيوبيا، كما كان منها سيناريو كارثى على الصعيد السياسى الدولى تقوم فيه مصر بتدمير إنشاءات سد النهضة الذى تقوم بإنشائه، وهو السد الذى تصدَّر ملف المياه بعد أن قامت إثيوبيا بإعلان البدء فى إنشائه دون إخطار مسبق لمصر فى الفترة التى سادت فيها الفوضى السياسية فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011. بالإضافة إلى ذلك، كان وضع مصر فى إفريقيا ومكانتها الدولية فى الحضيض، وعندما زار مرسى إثيوبيا فى مايو 2013 لحضور الاحتفال باليوبيل الذهبى لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية -التى أسهمت مصر فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر فى تأسيسها- استقبلته وزيرة التعدين، بينما كان رئيس وزراء إثيوبيا يستقبل غيره، وقطعت كلمته بعد 3 دقائق لتعطى الكلمة إلى رئيس بوركينافاسو. كانت هناك أزمة فى إدارة ملف المياه، وكان المناخ العام والإعلام فى مصر مشحونا بالعداء لإثيوبيا، ولا يُسهم إيجابيا فى التوصل إلى تفاوض مثمر مع السلطات الإثيوبية، وكان البدء فى بناء سد النهضة فى أبريل 2011 لاحقا للأزمة التى نتجت عن رفض مصر توقيع اتفاقية عنتيبى، وهى «اتفاق نحو إطار تعاونى لحوض نهر النيل»، يهدف إلى التعاون بين دول حوض النيل فى مجال إدارة المياه من أجل منفعة الجميع، وعلى أساس مبادئ القانون الدولى التى تلزم الدول المشاركة فى الاتفاق باستخدام منصف ومعقول للموارد المائية، كما تلزم الدول بأن لا تكون استخداماتها للموارد المائية سببا فى ضرر بالغ لأى دول أخرى، وقد وقعت 6 دول هذا الاتفاق فى يناير 2010، وتضامن السودان مع مصر فى عدم التوقيع. ولذلك كان أهم ما قدَّمه الرئيس السيسى والحكومة الحالية كخطوة أولى هو التنسيق بين الهيئات التى كانت تدير ملف مياه النيل، والابتعاد عن الخطاب الاستعدائى، والالتزام بخطاب معتدل على أساس الاحترام المتبادل والتفاوض والحراك الدبلوماسى فى المجال الدولى والإقليمى، لاستعادة مكانة مصر التى كان لتراجعها دور مهم فى إهمال إثيوبيا للمقترحات المصرية. ومن المهم أن مصر لم تستخدم الهيئات الدولية والإقليمية لفرض أجندة محددة، لكنها مهدت الطريق لحوار جاد على أساس حسن الجوار والمنفعة المتبادلة واستبعاد الحلول العسكرية. ومن المؤكد أن قيام الرئيس عبد الفتاح السيسى ومؤسسة الرئاسة بالتدخل فى إدارة الملف وزيارة إثيوبيا والسودان، كانا من أهم العوامل فى تهدئة الأجواء المشحونة بالغضب وعدم الثقة والتربص، خصوصا وقد التزم السيسى بأحقية إثيوبيا فى بناء السدود ما لم تؤثر بالسلب على حصة مصر من المياه. وفى خطوة تالية، التقى الرئيس عبد الفتاح السيسى فى الخرطوم فى مارس 2015، نظيره السودانى عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبى هايلى ماريام، بخصوص إتمام اتفاق سياسى بشأن سد النهضة، وتم حينذاك توقيع ما يعرف بمسمَّى «اتفاق مبادئ حول سد النهضة الإثيوبى». ومن أديس أبابا فى اليوم التالى، صرَّح الرئيس المصرى بالتزامه لدعم وتفعيل العلاقات بين البلدين على مستوى القيادة السياسية، والسعى لتعزيز الثقة وإزالة الشكوك حول مشروع سد النهضة، كما صرح ديسالين بأنه اتفق مع الرئيس المصرى على رفع مستوى اللجنة الوزارية المشتركة إلى مستوى القيادة السياسية. ومن الخطوات الإيجابية فى معالجة قضية المياه فى حوض النيل التوجه الذى يتبنَّاه الرئيس لدعم أواصر التعاون الاقتصادى وربطه بمتطلبات التنمية، بما يعود به من نفع على كل دول الحوض، وكحافز للتفاهم على طرح حلول عملية للاختلافات بين الدول على استخدامات مياه حوض النيل، وكوسيلة لتفهم الشعوب وقبولها المبادرات السياسية الخاصة باستخدامات المياه. وكخطوة تالية فى طريق الإدارة الناجحة لملف مياه حوض النيل، نتوقع أن يقوم الرئيس بمبادرة للقيام بحلّ شامل لاستخدامات المياه فى كل دول حوض النيل، بإعادة النظر فى اتفاقية عنتيبى التى ستتيح لمصر المشاركة الفعالة فى التوصل إلى أفضل الاستخدامات التى ستتيح لمصر تعظيم الموارد المائية اللازمة دون إجحاف بمتطلبات الدول الأخرى، أو التسبب فى أضرار ذات شأن، ونتوقَّع أن يتم ذلك فى إطار تكامل اقتصادى يضمن لكل شعوب دول حوض النيل دفع عجلة التنمية البشرية والاقتصادية، مما سيتطلّب التنسيق مع الاتحاد الإفريقى والمنظمات الدولية المانحة لاحتواء أزمة المياه وتحويلها إلى فرصة للازدهار، وقد مهدت مصر لذلك بالموافقة -فى اتفاق مبادئ حول مشروع سد النهضة (اتفاق الخرطوم)- على مبادئ التعاون والتنمية المستدامة والشراكة فى المنفعة، والتكامل الإقليمى، وهو ما تنصّ عليه اتفاقية عنتيبى. بدايةً موفَّقة تحتاج إلى منظومة سياسية وثقافية وتعليمية وتنموية جديدة للتخطيط والتنسيق وبناء القدرات والإعلام والتوعية.