كنا قد تحدثنا فى مقال سابق عن المفاضلة بين ما يعرف “بالادخار الاختيارى” للأفراد و”الادخار الإجبارى” للدولة، وانتهينا إلى ضرورة التجاء السلطات العامة، كثير من الاحيان فى مصر، إلى الاعتماد على الادخار الاجبارى فى تكوين وتجميع المدخرات اللازمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكما ورد فى خطاب السيد الرئيس للحكومة الجديدة من تكليفات اقتصادية واجتماعية وما تلاها من تصريحات الحكومة للإعلام فى اجتماعها الأسبوع الماضي. اليوم نوضح كيفية معالجة ضعف الادخار الاختيارى للأفراد ومحاربة ظاهرة الاكتناز (أى الادخار الجبان) من الأموال التى تلتزم المخبأ المنزل أو محل العمل دون البنوك، فالدولة (من خلال سياساتها المالية والنقدية) هنا لها دور كبير فى تشجيع الادخار الاختيارى ليحل تدريجيا محل الادخار الإجبارى الذى لا يستسيغه المجتمع المصري. ولعل ما نطرحة من أفكار اليوم تساعد الحكومة الجديدة على ذلك وتأخذ فى اعتباراتها السبل الممكنة لزيادة حجم الادخار الاختياري: فيمكن عن طريق السياسة الضريبية المرنة، وتحدد وعائها وسعرها التأثير فى استخدام الدخول فى اتجاه الادخار الاختيارى لا الاستهلاك. كما يؤدى تخفيض الضرائب على التركات والمنقولات إلى تشجيع الادخار الاختيارى أيضاً. أضف إلى ذلك أن الادخار هو مفعول الدخل المتوقع، لذا فإن تعديل الضرائب على الدخول والمرتبات والأرباح بكل أنواعها وأشكالها بما يتناسب مع الوضع الاقتصادى للبلاد الآن من مرحلة ركود نسبى تؤثر تأثيراً كبيراً فى تكوين المدخرات الاختيارية بالإيجاب. ولا ننسى هنا تشجيع المشروعات العامة والخاصة ، من خلال التشريعات الاقتصادية، على عدم توزيع جزء من أرباحها واستخدامها فى تمويل مشروعات جديدة، وذلك عن طريق إعفاء هذا الجزء من الضرائب أو بعضه. وأخيراً يجب أن تعمل السياسة المالية والنقدية فى البلاد على وضع خطط استباقية لتوقع ولتجنب الموجات التضخمية، وذلك لأن ارتفاع الأسعار من طبيعته إضعاف باعث الادخار الاختيارى. أما فيما يخص محاربة ظاهرة الاكتناز الواسعة الانتشار فى مصر، فيمكن للسياسة المالية عن طريق فرض ضرائب على الأرباح غير الموزعة والتى لا تستثمر لمدة زمنية معينة، وعلى الجانب الآخر تعمل السياسة المالية على إعفاء المدخرات التى تنزل إلى السوق من الضرائب مع منحها بعض الضمانات الحكومية، هذا بالإضافة إلى السياسة النقدية، والتى يتبعها البنك المركزى بوضع بعض الإجراءات الفنية لتحفيز اخراج المدخرات من المخبأ إلى السوق، والتى تهدف فى مضمونها إلى زيادة درجة سيولة المدخرات وإلى تأمينها، مثل توسع قاعدة تراخيص صناديق التوفير والاستثمار فى جميع المحافظات وقيام البنوك على تحويل الادخار الى استثمارمن خلال ادارات فعالة، ثم تسهيل إجراءات استرداد المبالغ المدخرة من الصناديق ، والاستمرار فى اصدار أذونات خزانة قابلة للدفع عند الطلب وأخرى قابلة للدفع فى مناسبات استثنائية مثل (الزواج والوفاة والمرض والكوارث الطبيعية والإنسانية)، واعتماد أذونات الخزانة فى بعض الحالات بالوفاء بالضرائب أو بعضها. وأخيراً التوسع فى اصدار سندات أو أذونات خزانة منخفضة القيمة حتى تستطيع المدخرات الصغيرة شراءها، وهنا تعطى الفرص للمدخرات الصغيرة رغم ضآلتها أن تجمع وتحول إلى استثمارات كبيرة، بحيث لا يصح أبداً التقليل من قيمة مدخرات الطبقات المتوسطة والفقيرة لأنها هى الطبقات الأكثر عدداً فى الدول الآخذة فى النمو كمصر، وما يدلنا على أهمية ادخار هذه الطبقات أن تمويل شهادات استثمار حفر قناة السويس الجديدة والتى مولت المشروع بالكامل وفائض منها ، قد تمت بمدخرات الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة فى بلادنا. إلا أنه ورغم كل هذه الاجراءات المقترحة، يظل من العسير القضاء كاملاً على ظاهرة الاكتناز فى مصر ، أى أنه من العسير تحويل كل ادخار إلى استثمار، وهو ما يؤكد استمرار تعطل جزء كبير من الموارد عن العمل وعرقلة التنمية وتدنى معدلات نمو الدخل القومى لفترة عن المستويات المطلوبة لتحقيق التشغيل الكامل. لذا وجب على الحكومة الجديدة (باقية أو راحلة بعد مجلس النواب الجديد فى ديسمبر المقبل) الإسراع فى اتخاذ إجراءات فنية أكثر عمقا من خلال السياسات المالية والنقدية، وتحت رقابتها وضماناتها الكاملة أمام الشعب المصري، حتى نتخلص من أحد أهم معوقات التمويل والتنمية فى مصر فى المرحلة المقبلة، وهما ضعف الادخار الاختيارى وظاهرة الاكتناز. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب