«القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود» ظل هذا المثل يتردد على الاذهان خلال فترتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكان يكتب على أغلفة الكراسات المدرسية وكذلك تزين به جدران المدارس ومراكز الشباب التى كانت منتشرة آنذاك، وكان الهدف الأساسى هو تربية النشء والشباب على قيم الادخار وضرورته للمستقبل. حيث كان المجتمع يؤمن تماما بأهمية هذه المسألة وضرورتها للنمو الاقتصادى والمجتمعي، ولهذا لم يكن مستغربا ان تنص معظم الدساتير المصرية على هذه المسالة وكان آخرها ما جاء به دستور 2014 فى المادة 39 والتى «نصت على ان الادخار واجب وطنى تحميه الدولة وتشجعه وتضمن المدخرات وفقا لما ينظمه القانون».وللأسف الشديد فقد تلاشى هذا المثل تماما ليحل مكانه «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب» وأصبح الاستهلاك هو القيمة الأساسية الحاكمة لسلوك الافراد، وذلك بسبب التحولات التى جرت فى المجتمع المصرى خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضى وحتى الآن، مع اتساع حركة انتقال العمالة الى الخليج وسياسات الانفتاح الاقتصادى التى طبقت آنذاك، وغيرها من الإجراءات التى لعبت دورا مهما فى تغذية الاتجاهات الاستهلاكية للأفرادالذين وقعوا تحت تأثير «التكنولوجيا الجديدة» وسطوة وسائل الإعلام واتساع نطاق ودور الشركات متعددة الجنسيات فى الاقتصاد القومى والتى قامت أساسا على توحيد معايير الإنتاج، وتغيير أنماط الاستهلاك والقيم والأولويات والأذواق والمقاييس، ولهذا سادت أنماط استهلاكية جديدة لدى معظم شرائح المجتمع. وهنا تجدر بنا الاشارة الى ان الاستهلاك النهائى كان ومازال هو المحرك الأساسى للنمو خلال الفترة الماضية وحتى الان، وعلى النقيض من ذلك فقد ساهمت الاستثمارات بالسالب. وبعبارة اخرى فان التراجع فى معدلات النمو الذى حدث خلال الفترة الاخيرة يعود بالأساس الى تراجع معدلات الاستثمار بسبب تدنى معدلات الادخار المحلي. وبالتالى فان زيادة معدلات النمو تتطلب اولا زيادة المدخرات لتحفيز تكوين رأس المال. اذ كلما ارتفع معدل الادخار اثر ذلك بالإيجاب على معدلات النمو، وهنا تشير الدراسات العلمية الى ان هناك علاقة دائرية موجبة بين النمو والادخار، فزيادة الادخارات تؤدى لزيادة النمو، وكذلك زيادة النمو تؤدى لرفع مستويات الادخار. من هنا تأتى أهمية الحديث عن الساق الاخرى للاستثمار وهى الادخار المحلى. ولذلك أصبح من الضرورى العمل على إحياء ثقافة الادخار من جديد وذلك لأنه لايعد أحد أهم مصادر تمويل الاستثمارات فحسب، بل هو المصدر الرئيسى لها، حتى فى ظل تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، بل انه ضرورى لجذب هذه الأموال. اذ ان نجاح أى مشروع جاد،فى المدين المتوسط والطويل يتوقف على حسن أداء الاقتصاد فى مجموعة. ونظرا لضرورة رد هذه الاستثمارات فى المستقبل فمن الضرورى ان تستخدم بشكل منتج وفعال ومن ثم فان اجتذاب المدخرات الخارجية يتطلب اولا زيادة المدخرات المحلية وتعبئتها فى استثمارات رشيدة ومنتجة. فاذا كان تحقيق مستوى مرتفع للنمو الاقتصادى يتطلب إحداث زيادات منتظمة فى رأس المال وكذلك فى فاعلية استخدامه، فإن ازدياد حجم الاستثمارات لن يكون قابلا للاستمرار الا إذا تحقق بشكل ينسجم مع وجود وضع اقتصادى سليم وبيئة استثمارية مناسبة. وهو ما يتطلب أيضا، وبنفس القدر، الاهتمام بتعبئة المدخرات المحلية.وهنا نلحظ ان معدل الادخار المحلى فى تراجع مستمر خلال الفترة السابقة اذ هبط من 14.3% عام 2009/2010 الى 5.2% عام 2013/2014. وهو معدل منخفض للغاية لا يتناسب باى حال من الأحوال مع معدلات الاستثمار المطلوبة لرفع معدل النمو بما يحقق الأهداف التنموية للبلاد، وامتصاص البطالة المرتفعة.وأدى ذلك الى اتساع فجوة الموارد المحلية لتصل الى نحو 177 مليار جنيه فى العام المالى 2013/2014. ومع تسليمنا الكامل بان تراجع معدل الادخار المحلى يرجع فى جانب كبير منه الى عجز الموازنة العامة للدولة. اذ تشير الإحصاءات الختامية لمصفوفة الادخار والاستثمار الى ان القطاع العائلى قد استطاع تعبئة مدخرات بلغت 339.2 مليار جنيه عام 2013/2014 الا انه استخدم منها 228.3 مليار لإقراض الحكومة منه نحو 191.8 مليار لتمويل عجز الموازنة. وبمعنى آخر فإن الزيادة المستمرة فى عجز الموازنة العامة للدولة تعد عنصرا أساسيا فى ضعف المدخرات المحلية. ورغم ذلك فان المتتبع لمدخرات القطاع العائلى يجد ان معدلاتها فى تناقص مستمر أيضا، سواء داخل الجهاز المصرفي، أو توفير البريد وشهادات الاستثمار، ويرجع البعض السبب فى ذلك الى ضعف دخول الافراد باعتباره عاملا مهما فى تحديد نمط الاستهلاك فاذا كان مستوى الدخل ضعيفا فإن حساسية الادخار الخاص لأسعار الفائدة ستقترب من الصفر. وهو ما يطبق على البلدان التى تتميز بسوء توزيع الدخول بين الأفراد، كما هو الحال فى مصر. وعلى الرغم من وجاهة هذه الحجة الا ان العلاقة السببية بين نمو الدخل ومعدل الادخار لم تحسم بعد، خاصة فى ظل تأثير بعض العوامل المؤسسية على هذه العملية. حيث ان جزءا لا بأس به من الادخار فى مصر، يتخذ شكل مساهمات فى صناديق المعاشات او أشكالا أخرى من الادخار الإجبارى التى تتحقق بغض النظر عن معدل العائد عليها. وبعبارة أخرى فان المدخرات الإجبارية المتمثلة فى التأمينات والمعاشات تمثل الجانب الأكبر من الادخار المحلى بينما المدخرات الاختيارية مثل صندوق توفير البريد وشهادات الاستثمار والأوعية الادخارية الأخرى تسهم بنسبة اقل فى هذه الأموال. يضاف الى ما سبق ان تشجيع الادخار المحلى يعتمد على مدى مشاركة الجمهور فى التعامل مع المؤسسات المالية ونظرا لان مصر من البلدان التى لا تتمتع بمشاركة فعالة من الجمهور فى المؤسسات المالية، فإنها لن تتأثر كثيرا بالتغييرات فى أسعار الفائدة. وهناك رأيان نظريان مختلفان اختلافا شديدا بشأن الدافع الأساسى للادخار الأول هو ان الادخار ينبع من الاختيار بين الاستهلاك الحالى والمستقبلي، ويقوم الأفراد بمقارنة معدل التفضيل الزمنى بسعر الفائدة ويعدلون استهلاكهم عبر الوقت لتعظيم المنفعة، ويكون سعر الفائدة هو الآلية الرئيسية التى توازن بين الادخار والاستثمار. والرأى الثانى هو ان هناك رابطة وثيقة بين الدخل الحالى والاستهلاك مع الادخار كمتبق وبموجب هذا الرأى فان التوازن بين الادخار والاستثمار يتم أساسا من خلال التحركات فى الدخل مع انخفاض تأثير سعر الفائدة. وهناك رأى وسيط بين هذين الرأيين يحاول التوفيق بين تعديل الاستهلاك ودور الدخل فى تحديد الاستهلاك، ويرى ان مفهوم الدخل الدائم هو الذى يحرك عملية الاستهلاك. وهكذا فان الكتابات المستفيضة حول العوامل المحددة للادخار لم تحسم بعد قضايا رئيسية عديدة منها ما إذا كان هناك تعديل زمنى كبير للاستهلاك حسب الرأى الأول، اوما إذا كان الاستهلاك، وبالتالى الادخار يتحدد أساسا بأنماط الدخل الراهن حسب الرأى الثاني. مما سبق يتضح لنا ضرورة قيام الجهاز المصرفى بدوره فى تعبئة المدخرات وتطويره بحيث يصبح أكثر قدرة على جذب المدخرات، خاصة فى الريف المصري، وتوظيفها التوظيف الأمثل. وتشجيع التعاملات المصرفية، وزيادة رقعة الجهاز المالى والمصرفى المنظم فى الاقتصاد القومى مما يؤدى فى النهاية إلى الحد من التعاملات النقدية غير المنظمة. مع العمل على تطوير صناديق توفير البريد بحيث تصبح أداة لتعبئة المدخرات خاصة فى القرى والنجوع المصرية. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي