مع اقتراب موعد افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة, يشعر الشعب المصرى بالفخر والعزة والقدرة على تخطى الصعاب وتحقيق إنجازات فى ظل أحلك الظروف. وبهذه المناسبة أردت أن أؤكد, وكما أشار السيد رئيس الجمهورية فى أكثر من مناسبة أن هذا المشروع القومى هو بداية الطواف وليس نهاية المطاف فى رحلة بناء مصر الجديدة بعد الثورة, وان هناك مشروعات قومية أخرى مقبلة نأمل أن تمول بمدخرات الشعب المصرى اختياريا, مثل نموذج القناة لكى يتحقق الرخاء والتقدم والتنمية التى ننشدها جميعا, لنا وللأجيال المقبلة. فمشوار التنمية الاقتصادية ودفع الاستثمار يحتاج إلى رءوس أموال نقدية ضخمة للقيام بهذا الغرض. الأمر الذى يتطلب تكوين ادخار قومى كبير( خاص وعام) فى المستقبل القريب, ويتطلب أيضاً حسن استخدامه فى المجالات المنتجة. وهنا تبرز مشكلتان فى مصر على الأخص, الأولى تتعلق بتكوين الادخار وتجميعه، والثانية تتعلق بأثر تكوين الادخار فى الطلب الكلى الحقيقي. وعليه تكون المشكلة فى الحقيقة مزدوجة، فتكوين الادخار فى البلاد الآخذة فى النمو يتصف بمحدودية القدرة ، مما يؤدى إلى عدم كفايته وحده لتشغيل الموارد المعطلة. أى بمعنى آخر لتمويل التنمية المطلوبة بالكامل. وتعود قلة الادخار فى مصر إلى انخفاض الدخل القومي، وبالتالى توزيعه الفردى بصورة تجعل أن يخصص معها الجزء الأكبر من الدخل للاستهلاك العائلى لا للادخار ثم الاستثمار, على عكس ما هى الحال فى الدول المتقدمة. ولا تقتصر مشكلة الادخار على كونها مشكلة إمكانات فحسب، أى لا تعود إلى انخفاض الدخول وحدها، بل فى جزء منها هى فى الحقيقة مشكلة إرادة شخصية. لأن الادخار يتوقف بالإضافة إلى حجم الدخل الكلى, على مجموعة من الحاجات الشخصية والنزعات النفسية والعادات الاجتماعية التى تحدد حجم الاستهلاك الفردى والعائلى والقومى من مجمل دخل معين. وهذا ما يضاعف من مشكلة تكوين الادخار فى مصر، لأنه ليس من السهل على المجتمع أن يغير باختياره من ميوله الاستهلاكية التى اعتاد عليها سنوات طويلة، أى بعبارة أوضح صعوبة التنازل عن العادات الاستهلاكية المرتبطة بالتكوين المجتمعي المصري. وعليه ننتهى هنا إلى تكوين «الادخار الاختياري» كجزء من الدخول المنخفضة عندنا مسألة عسيرة للغاية ، وعليه تتضح أهمية الالتجاء إلى «الادخار الإجباري» والذى تقوم به الدولة بدلا من الأفراد. وتظهر المشكلة الثانية وهى تجميع الادخار وتوجيهه، بحيث يشكل الادخار الاختياري, وهو عادة يكون لحساب الأفراد, يواجه بالإضافة إلى تكوينه، مشكلة أخرى وهى تجميعه واستثماره فى المجالات الصحيحة. وتقتضى هذه المشكلة محاربة الاكتناز وهى مهمة شاقة وخاصة فى مصر فى المجتمعات الريفية الزراعى والطبقات غير المتعلمة ومحدودة الثقافة الاقتصادية، والتى تثق فى النقود أكثر من ثقتها فى الادخار البنكى وهى الظاهرة المعروفة «بالادخار الجبان»، أى الذى يتجنب أسواق النقد والمال ويلتزم المخبأ (المنزل أو محل العمل). والحق أن محاربة هذا «الاكتناز» فى مصر أمر غاية فى الصعوبة وذلك لأنه يعود إلى عوامل نفسية عميقة وموروثة, ليس من السهل تغيرها فى وقت قصير. ويتضح مما تقدم أن مشكلة تكوين الادخار وتوجيهه هى أمور معقدة عندنا وأنها تزداد تعقيداً بالنسبة «للادخار الاختيارى» على الأخص. ومن هنا تبدو أهمية الالتجاء إلى «الادخار الإجبارى» الذى تقوم به السلطات العامة أى الدولة لحسابها (مثل الضرائب) لتحوله للمجتمع فى أشكال عدة (مثل التحويلات الاجتماعية والاستثمارات العامة بكل أنواعها), إذ إن هذا الادخار أقل عسراً من حيث تكوينه وتجميعه من الادخار الاختياري، إذ لو ترك الأمر لاختيار الأفراد، فلن يزداد الادخار كما يجب، والحق أن تكوينه بالإجبار لحساب الدولة يوفر عليها محاربة ظاهرة الاكتناز الواسعة الانتشار فى مصر. ننتهى إلى أن قيام الدولة (السلطات العامة) بتكوين ادخار إجبارى لحسابها ولتحويله للشعب، حتى لو كان هذا السبيل يحرم بعض الطبقات المدخرة عن التمتع بثمار مدخراتها مرحليا، إلا أنه يجد ما يبرره فيما تقدمه التنمية الاقتصادية لمصر , ولعل مثل مشروع قناة السويس الجديدة كان أبرز دليل على ذلك, لما له من عائد متوقع تنموى شامل فى جميع المجالات و لكل شرائح قوى الشعب العاملة. حيث إنه حقق أكثر من هدف, أولهما خروج مدخرات الشعب المصرى من المخبأ «اختياريا» إلى العمل والإنتاج وأسهم فى محاربة ظاهرة الاكتناز السلبية, وليس آخرها إيجاد مشروعات وفرص عمل جديدة متوقعة لتعالج المشكلات الاقتصادية الهيكلية وتدر منافع على الشعب كله والأجيال المقبلة بشكل يحقق التوزيع العادل للدخل القومى ويشتمل على قدر مناسب من العدالة الاجتماعية. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب