يبدو أن أحد أسباب تراجع سؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ التاريخى منذ صدمة التحديث مع حملة نابليون الفرنسية، يعود إلى أسباب أخرى على رأسها ما يلى: 1- التركيز فقط على الاستعمار الغربى، واستغلاله لثروات المجتمع المصرى، ومعه بعض مواليه من المصريين، وإعاقته إمكانات التطور الذاتى فى إطار تفاعلات المجتمع التقليدى ونخبه. هذه الوجهة من النظريات باتت نمطية لاسيما فى ظل دولة التعبئة وإعادة كتابة التاريخ المصرى على نحو إيديولوجى. هذا النمط الانتقائى أدى إلى غياب الدرس التاريخى النقدى، وظل درساً سردياً يعتمد على تصنيف الوقائع وتركيبها لتكوين استنباطات واستخلاصات تمالئ النظرة الأحادية والإيديولوجية للتاريخ المصرى فى عديد مراحله. استخدمت التيارات الإسلامية السياسية على تعددها واختلافها الظاهرة الاستعمارية وتأثيرات التحديث والحداثة المبتورة فى التركيز على مسألة التغريب، وأنها أضاعت معها الهوية الإسلامية لدى بعضهم وشوهتها لدى بعضهم الآخر، وذلك كجزء من استخدامات سياسة الهوية المحددة المعالم والمكونات والثوابت والعابرة للمكان والزمان والتاريخ. من ثم أدى هذا النمط من التحليل الانتقائى إلى ضعف مقاربة مسألة التخلف، وتركيزها على المتغيرات الخارجية، وذلك بهدف التعبئة السياسية وراء الفكرة الإسلامية الجامعة (الخلافة)، كان ثمة رهابّ من البحث وتقصى جذور التخلف فى الفكر الدينى الوضعى الذى تشكل تاريخيا حول المصدر المقدس المتعالى، والسنة النبوية المشرفة، والطقوس والعادات والثقافة الدينية الشعبية وتراكماتها التاريخية المركبة. 2- النزعة الشعاراتية المعممة كنمط تفكير ساد فى العقل الدينى والعقل السياسى أدت إلى التركيز على الدوران فى دائرة مغلقة تمثلت فى العامل الاستعمارى، وضرورة التحرر والاستقلال الوطنى، وهو مطلب محورى للحركة القومية المصرية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا فى بحث مسألة التخلف. لأن الفكر السياسى الحديث تعامل مع هذه المسألة من خلال شعارات الديمقراطية الليبرالية واستعارة بعض أشكالها حول النظام النيابى، دونما نظر فيما وراء تجارب الديمقراطية النيابية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والمسارات التى اتخذتها فى كل نموذج غربى. من هنا تحولت إلى لعبة سياسية، ومجموعة شعارات وأحزاب، وطبقة شبه رأسمالية، وكبار ملاك الأراضى الزراعية ومجموعات من القواعد الاجتماعية من »الأفندية« من الشرائح الوسطى- الوسطى، والوسطى -الصغيرة فى القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الحضرية، دونما تجذير للأحزاب السياسية فى البنية الاجتماعية، وفى إطار الأغلبيات الشعبية المعسورة والمحرومة من التعليم والصحة.. الخ. 3- إغفال الأبعاد الثقافية، والاجتماعية والرمزية فى مقاربة مسألة التقدم والتخلف، والتحديث والحداثة، و اختزال الجوانب المركبة والمعقدة فيما وراء التخلف فى ثنائيات ضدية مستمدة من الفكر الدينى- من مثيل الأصالة والمعاصرة، أو فى شعارات غامضة كالفكرة الإسلامية الجامعة أو الدولة الدينية التى تقوم على الرابطة الدينية مع نسيان أن طرح كلا المفهومين هما جزء من مفاهيم سابقة على حركة القوميات وبناء الدولة/ الأمة. 4- المطارحات الأيديولوجية والانطباعية البسيطة حول هوية مصر إسلامية أو عربية أو قبطية أم مصرية، والارتكاز على بعض الانتقائيات للإجابة عن السؤال المركب والمتغير والتاريخى لمسألة الهوية ومكوناتها ومتغيراتها وتحولاتها. وسؤال الهوية أحد أسئلة الهروب الفكرى التى ترمى لتحويل أسئلة التخلف التاريخى من فحص عوامله البنيوية فى الهياكل الاجتماعية والثقافية والدينية والقيم والتقاليد والسلوك والتعليم والسياسة والاقتصاد. من ناحية أخرى هيمنة المقاربات الأيديولوجية الاحادية فى بحث مسألة التخلف الاقتصادى، معزولا عن التخلف الاجتماعى، والسياسى، والثقافى، فى حين أن هذه الجوانب المختلفة متداخلة على تمايز كل بنية. هذا الاتجاه فى الفصل بين الجوانب المتداخلة كرسته المناظرات والبحوث الأيديولوجية فى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، والتسعينيات من القرن الماضى، سواء لدى بعض اليساريين الماركسيين، أو بعض الناصريين، أو المدرسة الاقتصادية الرأسمالية، من الكينزية إلى الكينزية الجديدة، إلى النيو ليبرالية تحت وهمّ الإصلاح الاقتصادى. المدرسة اليسارية ركزت على هيمنة الرأسمالية الدولية، وعلاقات اللا تكافؤ، والمركز المحيط، ثم على طبيعة التركيبة الطبقية وتحيزاتها واختلال سياسات التوزيع وسياسة الإحلال محل الواردات.. الخ. مدرسة الاقتصاد الحر، ركزت على أمور ذات طبيعة فنية فى الاقتصاد والموازنة العامة واختلالها، وعلى الأداء البيروقراطى وغير الكفء للقطاع العام، وجهاز الدولة الإدارى، والأثر السلبى لغياب المبادرة الفردية، وحرية السوق.. الخ. لم تطرح كلا المدرستين الأمور فى أبعادها ومكوناتها السوسيو- تاريخية، والثقافية والقيم المعوقة للحداثة والتحديث وأثرها السلبى على الاقتصاد. 5- فى بحث التخلف السياسى، كان التركيز على الديمقراطية والحريات والأحزاب والانتخابات وإصلاح اختلالات النظام التسلطى.. الخ، دونما بحث علاقة السياسى بنظام القيم الاجتماعية، والجذور الثقافية التى تشكل إعاقات تبنى الديمقراطية الليبرالية والاجتماعية فى المكون الدينى الوضعى، وفى القيم التسلطية، والإكراهية السائدة. 6- البحوث الاجتماعية الميدانية ظلت محدودة، وعديد نتائجها تشوبها الأخطاء وبعضها يفتقر إلى عمق المعالجة والتحليل، وظلت منفصلة عن السياسى والاقتصادى والثقافى والقيمى. من ناحية أخرى ثمة نظرة تجزيئية ومعممة وسطحية فى النظر إلى التقدم والتحديث والحداثة وما بعدها والعولمة، ويتمثل فى الخطاب حول الغرب، وكأننا إزاء كيان موحد ومنصهر فى مفهوم الغرب، وتم بناء عالم من التعميمات والتصورات حول الغرب، بينما لم ندرس فى العمق التجارب الغربية المتعددة والمتنوعة داخل هذا الغرب، وهو ما أدى إلى تعميمات مجنحة. تغيرت الدنيا، وعصفت بنا الأزمات والهزائم وتراكم التخلف التاريخى وتفاقم، ولانزال نعيد السؤال القديم والممتد لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟! بينما حدثت ثورات هائلة فى التقنية والأفكار والمفاهيم والنظريات، وفى السياسة، والثقافة والمعرفة، ونحن نعيد سؤالا قديما، هو فى ذاته تعبير عن تخلفنا التاريخى!! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح