لم تعد شهادة الزور وقفا علي استئجار قلة من ضعاف النفوس للإدلاء بشهادة كاذبة أمام ساحة المحكمة لتبرئة متهم ارتكب جرما يستوجب العقاب . فقد تسللت مظاهر ومشاهد قول الزور إلي حياة المسلمين في كل مكان, في الشارع والأسواق, والعمل, وحتي داخل الأسرة الواحدة, وبأشكال وأوجه وصور متعددة, منها الكذب والخداع والتدليس الذي يضيع الحقوق والأمانات وينشر الظلم بين الناس. وعلي الرغم من وجود آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة نصت علي أن الظلم وقول الزور من الكبائر فإنه تسلل إلي حياتنا بشتي الصور والمظاهر. وفي ظل حالة الجدل السياسي الذي تشهده البلاد, ظهرت آفة جديدة وصورة مستحدثة من صور شهادة الزور تجلت في الاتهامات المتبادلة بين أنصار بعض المترشحين للانتخابات الرئاسية بشراء التوكيلات الانتخابية, والتغرير بالناخبين, ومن هنا انطلقت تحذيرات علماء الدين من بروز شهادة الزور بصور وأشكال متعددة مؤكدين أن قول الزور آفة يجب علي المجتمع مواجهتها. شهادة في الحق يقول الدكتور حلمي عبد الرءوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إن الشهادة ضرورية لقيام الحياة الاجتماعية وما يخالطها من أحداث ويصحبها من وقائع مادية وتصرفات إرادية ومعاملات وعلاقات عائلية, ومن حقوق الإيمان وواجباته الشهادة في الحق ولو علي النفس أو أحد المقربين, يقول تعالي: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين, فكتمان الشهادة جرم عظيم وإثم كبير, يقول تعالي: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين, فالأصل في شريعة الإسلام أن تكون الشهادة مبنية علي علم وبيان وأن تنشأ عن ثقة واطمئنان, قال تعالي: إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ويقول عز وجل في قصة يوسف: وما شهدنا إلا بما علمنا والأصل أن تكون الشهادة عن مشاهدة وعيان, فما من شأنه أن يعاينه الشاهد كالقتل أو السرقة أو الزني ونحو ذلك فلا يصح أن يشهد به إلا بالمعاينة والمشاهدة البصرية له, ولذلك فإن شهادة الإنسان علي ما لا يعلمه أو شهادته بخلاف ما لا يعلمه جريمة عظمي. أعظم الكبائر وفي ظل الاتهامات المتبادلة بشراء أصوات الناخبين وتزوير وشراء التوكيلات الانتخابية جاءت تحذيرات علماء الدين من الانسياق وراء تلك الممارسات التي تخالف صحيح الإسلام, فقد قال الدكتور محمد المختار المهدي, عضو مجمع البحوث الإسلامية, إن شهادة الزور علي اختلاف صورها من أعظم الكبائر, فعلي سبيل المثال, يعد الهدف من الانتخاب اختيار الأصلح الذي يسعي علي مصالح الأمة بكل صدق وضمير, أما إعطاء الصوت علي أساس القبلية والعصبية للمرشح دون معرفة حال من نعطيه صوتنا, فهذا أيضا عمل غير سليم, ويعد أيضا شهادة زور, فالمسلم صاحب الوعي السليم, والفاهم لدينه, لا يتعصب إلا للحق, ولا يقف إلا في صف العقلاء الراشدين, ولابد من تجنب من يسيء لأمته, ويهدر مصالح وطنه وهو مأجور بهذا الخلق الكريم, يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا, إن من أعظم صور الغش وأشدها جرما تزوير إرادة الأمة, فقد ذم الله تعالي من ركن إلي ظلم الظالمين, فقال: ولا تركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون, ومن لم يستطع منع هذا المنكر فلا أقل من أن يكرهه ولا يرضي به, فذلك أضعف الإيمان.
تزوير الإرادة ويري الدكتور سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, أن تزوير توكيلات المرشحين للرئاسة, هو أعظم ذنبا وأكثر جرما من شهادة الزور في ساحات المحاكم, ويقول: يشمل التزوير هنا أكثر من طرف, الطرف الأول سرقة اسم المواطن دون إذنه أو الضغط عليه ماديا أو أدبيا أو دينيا لأخذ صوته, الطرف الثاني الموظف الذي قام بعمل هذا التوكيل, والطرف الثالث الشعب الذي ظن أن فلانا حصل علي هذا العدد من التوكيلات فيعطيه ثقته وهو في الحقيقة لا يستحقها, والتزوير في هذه الحالة يتعلق بالمصلحة العامة وهو أشد ضررا, وهو أيضا عمل غير أخلاقي تنكره جميع الأديان السماوية, ويعد من النقائص الإنسانية والأخلاقية, أما شراء الأصوات فهو مسألة فقهية, تعتمد علي ما اتفق عليه المجتمع وما يقره قانون الانتخابات بمجلس الشعب الذي نص صراحة علي تجريم عمليات شراء الصوت بين النائب والمرشح, واغفل العلاقة بين المرشحين وبعضهم, فلم يجرم تنازل أحدهم لصاحبه بمقابل وغير مقابل, فلا يجوز للمرشح اعطاء مال للناخب وان صح أن يأخذ مالا من الناخب باعتباره مساعدة في الدعاية الانتخابية, وطالما أن القانون نص علي ذلك فيعد هذا الدستور الذي قال عنه الرسول صلي الله عليه وسلم:( المسلمون عند شروطهم), أي يجب علي المسلمين أن يتعاملوا في ظل ما اتفقوا عليه, وبناء عليه فإن كل علاقة مالية خارجة عن هذا القانون تعد غير شرعية, إذن نحن بصدد عملية تنظيمية فلنا أن نتفق علي ضوابط معينة ونلزم أنفسنا بها باعتبار أن المنظومة الانتخابية منظومة حديثة لم تكن موجودة في الفقه الإسلامي, فهي نظام حديث دخل في القرن العشرين والفقه الإسلامي لا يعارضه باعتباره متوافقا مع الضوابط العامة للشريعة الإسلامية, وعملية شراء الأصوات تقضي علي فكرة الانتخابات النزيهة, ومما يجعل النظام الانتخابي غير سليم ولا يؤدي لرسالته بالشكل المطلوب هو تدخل بعض الرموز بتغيير قناعة الناس بالتخويف دينيا أو أدبيا, فشيخ القبيلة مثلا يأمر أبناء قبيلته بانتخاب شخص بعينه مما يعد ضغطا أدبيا, وهناك من يضغطون علي الناس من الناحية الدينية ويرهبونهم من النار ويوعدونهم بالجنة في حال انتخابهم, حتي رؤساء الأحزاب يجب أن يرفعوا أيديهم عن أن يرشح أعضاء الحزب شخصا بعينه, فلا يجوز بعد أن دخلوا الحزب بإرادتهم أن يمارس الحزب الدكتاتورية معهم.
كتمان الشهادة وينصح الدكتور, أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر, بتحري الدقة عند الادلاء بالأصوات حتي لا نقع في دائرة الشبهات, ويضيف قائلا: إذا كانت العملية الانتخابية أداء شهادة فينبغي أن تؤدي علي الوجه الصحيح وإلا كانت كتمانا للشهادة, يقول الله تعالي: وإذا قلتم فاعدلوا, ويقول عز وجل أيضا:( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها, وإذا كانت هذه الأمانة إبداء رأي فيجب التزام الصدق, يقول تعالي: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين, ومن صور التلاعب وتعدي الحدود الشرعية رشوة الذين يدلون بأصواتهم, فهذه الرشوة محرمة ومجرمة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية, سواء كانت هذه الأموال لتوكيلات مرشحين للرئاسة, أو لاختيار الحاكم نفسه, وإذا كان توكيلا لمرشح محتمل, فكيف يؤتمن علي مقدرات البلاد والعباد من يرتضي لنفسه أن يمارس التدليس والخداع وغرس الموبقات. ومن أبشعها( السحت) ويشيع في المجتمع فحشاء الكسب الخبيث, ويجب توعية المجتمع عبر المؤسسات الدعوية والتعليمية والإعلامية بأم الجرائم التي تؤدي إلي تولية من لا يصلح لقيادة وطن ولحكم شعب.