بدا فقر الخيال حينا، وانعدامه أحيانا كثيرة، سمة بارزة يوصف بها النظام المباركي، بسنواته الثلاثين، حيث الجمود والسكونية والركون إلى الماضي القريب، وبما أفضى بالواقع المصري إلى جملة من المشكلات من فقر، وبطالة، وفساد، وظلم اجتماعي، وتراجع للدور المصري سياسيا، وثقافيا، فضلا عن تغول الاستبداد والقمع، فكانت النتيجة المنطقية خروج الجماهير من الأزقة والشوارع الخلفية في ثورة شعبية عارمة في يناير 2011 حملت أماني المصريين وأشواقهم صوب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، غير أن لصوص الثورة سطوا عليها باسم المقدس، وطرحت الجماعات الدينية خطابات خارج الزمن والتاريخ، وعدنا قرونا إلى الوراء، وبدت القوى الرجعية وفي المتن منها جماعة حسن البنا وإخوانه في الهمينة على مقدرات الحياة المصرية، وانعدم الخيال، الذي يخاصمه المتطرفون ويعادونه، وينظرون إليه بوصفه رجسا من عمل الشيطان، وأضحت الهوية الوطنية المصرية الجامعة في مأزق شديد، فكان الجين الحضاري بتنوعه الخلاق حاميا للمصريين من صنم الأحادية، والانغلاق، والتصور الكهفي عن الحياة، والعالم، والأشياء، فكانت ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة خلاصا من الفاشية الدينية التي زاوجت بين الاستبداد السياسي والآخر الديني. يمتليء الواقع المصري برطان كثيره فارغ، وقليله صحي، وتتجادل الأصوات المختلفة حول طبيعة اللحظة الراهنة دون إدراك حقيقي للتحديات التي تجابهها الدولة المصرية الآن، وتكثر المزايدات ويتعالى الصراخ، ويتحول البعض إلى ملكيين أكثر من الملك، وينشغل البعض الآخر بسفاسف الأمور، ويبتعدون عن جوهر الحقائق، وليس ثمة أمر دال في هذا السياق أكثر من الصخب الذي رأيناه في الآونة الأخيرة حول دعوة البعض تعديل الدستور بدعوى أنه يقلص من سلطات رئيس الجمهورية، وينسى هؤلاء أن هذا الدستور قد وافق عليه المصريون بأغلبية كاسحة، ، كما أنهم لم يفكروا في خطورة ما يدعون إليه في هذا التوقيت الفارق الذي يسبق الانتخابات البرلمانية، ففضلا عن الصعوبات الإجرائية قانونيا ودستوريا حول التغيير المبتغى، فإن ثمة إطارا حاكما لحركة الدول في التعامل مع دساتيرها، وأي عصف بالدستور ونصوصه كان يؤدي دوما لكوارث في بنية الدولة ذاتها، كما أن الحضور السياسي المصري في المشهد العالمي قد بات مصحوبا بترحيب متزايد بصانع القرار المصري، وهذه نقطة مهمة يجب البناء عليها، خاصة أن الظرف الدولي قد شهد تغيرا إيجابيا لصالح الدولة المصرية، بعد أن بذلت مصر جهودا مضاعفة لتصحيح الصورة الخاطئة التي روجت لها الآلة الإعلامية الغربية الداعمة للإخوان، فضلا عن بعض القنوات العربية المغرضة، وإن ظلت بعض القوى الكبرى تدعم جماعات الإسلام السياسي في إطار العلاقة المشبوهة بين الاستعمار والرجعية. ومن ثم فإن الطرح الذي يغفل البنى الديمقراطية وفي متنها الدستور أو يتعامل معها بطريقة غضة، سيجلب لنا الكوارث دون أن يدرك ذلك، وسواء أكان ذلك بحسن نية أو بغيرها فإن قوة الدولة تكمن في خيالها المغامر، والقادر على الاستشراف، بامتلاكها ذلك الوعي الممكن، ولذا فمن الأولى أن يعمل الجميع، وعلى نحو واضح في التكريس لبرلمان ديمقراطي بحق، يمكنه التعامل الموضوعي والمسئول مع الدستور ونصوصه، وهذا لن يتحقق أبدا مادامت هناك أحزاب ترفع رايات المقدس بيد، بينما تغتال باليد الأخرى جوهر هذا الوطن، فالأحزاب الدينية على تنوعها ستصبح الظهير السياسي للرجعية في البرلمان، مثلما كانت الداعم الرئيسي للجماعة الإرهابية في اعتصاميها المسلحين، كما أن قلوبها وسيوفها أيضا لم تزل مع قطعان الإرهاب وخرافه الضالة في حربهم ضد الدولة المصرية. يتجلى الخيال القديم في الخطط والاستراتيجيات التي تضعها الدول حين تنظر تحت قدميها، ولا تفكر فيما بعد ذلك!، ويبرز أيضا حين تصبح ماكينة اختيارت المسئولين الرسميين تعمل بنفس الطرق والآليات القديمة، التي لم تفض بنا في الحقيقة سوى لمزيد من الخسارات، فأصبحنا أمة خارج التاريخ. إن استنساخ الوجوه ذاتها وبآلية رتيبة وبائسة سيدخلنا في حالة عبثية، تشبه مشاهدة فيلم كوميدي حفظت مشاهده تماما، وأصبحت تعرف ماذا سينطق به الممثلون، والأدهى أنه في حال تغير الفيلم بآخر يشبهه، سيمكنك حينئذ توقع المشاهد المضحكة بحذافيرها دون زيادة أو نقصان!. إن بعض الخيال، سيصلح خللا كبيرا، يمكن من خلاله أن نرى القادم، ونقرأ الماضي، ونستكشف الحاضر بعمق، والخيال ليس مطلوبا من الدولة وحدها فحسب، بل على المجتمع المدني جميعه أن يبدع في طرائق جديدة تقربنا من قيم التقدم، وتوقفنا على أعتاب الغد بحق، وإن ظلت المبادرة على عاتق الدولة ذاتها، وبما يعني أن النظرة التقليدية لم يعد ثمة أوان لها، فالواقع الآني بتفصيلاته المعقدة، وإشكالياته الملتبسة، يستلزم تعاملا إبداعيا بامتياز، يعبر عن رؤية جديدة للعالم، وخيال مختلف وجسور. يبدو الخيال إذن كلمة السر في تقدم أمم وتراجع أخرى، وكلما يصبح هذا الخيال قديما يصبح الواقع محلك سر، ولو غاب الخيال لم يعد ثمة أمل حقيقي في المستقبل، ولذا يبدو إعادة إنتاج الخيال القديم تكريسا لوعي زائف من جهة، واستنساخا لعهود ماضية من جهة ثانية، وبما يعني أننا حينئذ سنتحرك في المدار ذاته، وهذا ما تأباه الدماء التي سالت، والأثمان التي دفعتها الجماهير عبر ثورتين عظيمتين. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله