ما أكثر الفاشلين فى هذا العالم، بل وما أكثر الدول الفاشلة والأمم التى تترنح على المسرح الدولي، تتقاذفها الأمواج وتلعب بأقدارها «قوى دولية» لاترحم الضعفاء، ولا تقدر سوى «الأقوياء الأذكياء».. فويل للمهزوم فى هذا العالم. وفى المقابل ما أندر «رجال الدولة» الذين تمكنوا من بناء أمة، ووضعها فى المكان الذى تصبو إليه. ومن هذه القلة النادرة يأتى نور سلطان نازار باييف رئيس كازاخستان، الرجل الذى دخل تاريخ أمته بأنه الذى وضعها فى عقدين من الزمن ضمن ال 50 دولة الأكثر قوة وتطورا.
وربما تبدو المسألة سهلة الآن لمن يذهب إلى العاصمة الجديدة «الأستانة» إلا أن المرء عليه أن يستعيد التاريخ القريب. فقد تولى نازارييف مسئولية حكم كازاخستان بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وتحوله إلى «كومة من الرماد»، كما أن الأوضاع الاقتصادية لم تكن فى أحسن أحوالها. وكأن ذلك لم يكن كافيا، بل واجه الرجل «لعبة أمم ضارية» ما بين روسياوالصينوالولاياتالمتحدة. فضلا عن الأوضاع المتفجرة فى أفغانستان، وبروز الجماعات المتطرفة فى جمهوريات آسيا الوسطى المجاورة، وبالأمس القريب كنت شاهدا على أمة فتية تخطو خطواتها بثقة، وذلك ضمن الاحتفالات بمرور 550 عاما على تأسيس الأمة الكازاخية (خانات الكازاخ). الأجواء أسطورية، والحضور لافت، والدلالة الوحيدة أن نازارباييف فرض بلاده «رقما صعبا» فى معادلات القوة ولعبة الأمم فى آسيا الوسطى وما بين القوى الكبرى فى هذا العالم.. وهنا محاولة لقراءة المشهد عن قرب. فى البداية.. فإن ما تفعله كازاخستان يأتى مناقضا «لسيناريوهات قاتمة» كانت ولاتزال تتوقع أن تنزلق آسيا الوسطى «لفوضى ثورية» فى قلبها العناصر الجهادية المتطرفة مثلما ذهبت الكاتبة البريطانية ياسمين مسعود فى مقال لها بمجلة «أوبن سنترال آسيا». وأسبابها الوجيهة أن هناك العديد من الرجال والنساء من آسيا الوسطي، قد انضموا إلى صفوف داعش. كما أن العديد من الأوزبك والطاجيك يحاربون إلى جانب طالبان فى أفغانستان وباكستان القريبة. إلا أن الشواهد كلها تؤكد أن «اللعبة الأمريكية» لم تتمكن من إسقاط هذه المنطقة القريبة من الصينوروسيا فى الفوضي، فالمقصود مثلما يعرف المتابعون لشئون المنطقة هو «زرع فيروس» الصراع الدينى والمذهبى فى المنطقة، ثم انتقاله لتصدير المشكلات فى الصين التى بها أقلية مسلمة كبيرة فى غرب الصين، فضلا عن المساهمة فى تفكيك الاتحاد الروسى انطلاقا من أقاليمه التى بها مسلمون تتارسان والشيشان.. إلخ. وقد اعترف جيفرى مانكوف المدير المساعد والباحث فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بواشنطن أخيرا بأن «آسيا أصبحت أقل أهمية بالنسبة لواشنطن«، وفى مؤتمر بالأستانة منذ أيام أجمع عدد كبير من الباحثين الأمريكيين على أن «العلاقات بين الولاياتالمتحدة والمنطقة لم تتطور بصورة ملموسة، وأن قدرة اللاعبين الخارجين على التأثير فى المنطقة محدودة». إذن تماسك هذه الدول وفى المقدمة منها كازاخستان منحها الفرصة للاستقرار، وفى قصر الاستقلال أكد نازارباييف أنه من الآن فصاعدا سوف يطلق على بلدنا «بلد السهوب العظمي». وقال مخاطبا الوفود الأجنبية وممثلى الشعب، «إن أرضنا المقدسة منذ العصور القديمة تم تسميتها السهوب العظمي، ونحن كأبناء هذه الأرض والسماء فوقنا تعتبر الشاهد على التغيرات التى تحدث فى كل قرية ومدينة لكازاخستان الحديثة». وأضاف: فى القرن الحادى والعشرين تزدهر بلادنا مرة أخري، وتتحول إلى الفضاء الهائل من السهوب الأوروآسيوية، نحن أضأنا منارة التاريح الجديد، من الآن فصاعدا وإلى الأبد بلدنا كازاخستان هى بلد السهوب العظمي». وأشار إلى أن الكازاخستانيين مرتبطون مع اخوانهم الشعوب التركية الذين يعيشون من المحيط المتجمد الشمالى إلى البحر الأبيض المتوسط. وهذه لحظة كان الرجل يحاول أن يعمق الهوية لأمته، وأن يربط الماضى بالحاضر، خاصة أن الاحتفال شهد كذلك القمة الخامسة لمجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية، وذلك بحضور رئيس أذربيجان ورئيس قيرقيزستان ورئيس الجمعية الوطنية الكبرى التركية، ونائب رئيس وزراء تركمانستان والأمين العام لمجلس الدول الناطقة بالتركية. وكالعادة فإن نازارباييف رجل عملى ويستشرف المستقبل، فأكد أهمية تطوير قدرة بحر قزوين، وبصفة عامة جميع الطرق التى تمر عبر أراضى مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية. ووجه الانتباه إلى تطوير الطاقة النووية خصوصا مع تراجع أسعار النفط، وأشار إلى أن عنوان معرض اكسبو 2017 فى كازاخستان هو طاقة المستقبل، وأكد أن بلاده لاعب كبير فى صناعة الطاقة النووية، مشيرا إلى أن الطلب على هذا النوع من الطاقة سوف يرتفع كثيرا فى المستقبل. وفى اليوم التالى لإقامتى كنت على موعد آخر لمشاهدة نازار باييف وهو يحتفى برواد الفضاء العائدين من آخر رحلة إلى المحطة الفضائية الدولية، وفى مقدمتهم الرائد الكازاخى كمليمبتوف، ووسط ترحيب هائل من نخبة من المواطنين والصحافة العالمية أكد رئيس كازاخستان أن هذه الرحلة سوف تسهم فى تطوير برنامج كازاخستان لاكتشاف الفضاء، وتعزيز صورة بلاده فى المسرح العالمي. ومما لاشك فيه أن مصر وكازاخستان تجمعهما «علاقة قوية» تمتد إلى الظاهر بيبرس أحد القادة العظام والذى ينتمى بجذروه إلى الأمة الكازاخية، وهو ما عرض له الدكتور جلال الحفناوى خلال المؤتمر الدولى «البحوث والممارسة» فى جامعة نازارباييف، إلا أن الحاضر يشهد تناميا كبيرا فى علاقات البلدين، فقد صرح لى وزير خارجية كازاخستان يرلان أدريسوف بأن بلاده تتطلع لزيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى وصفه بأنه «صديق مقرب» من كازاخستان، وأكد أن مصر دولة مهمة للغاية فى منطقة الشرق الأوسط، وعلاقاتنا تعود إلى زمن الاستقلال. وأشار إلى أمله فى أن يزور الرئيس السيسى كازاخستان فى هذا العام، وعلم مراسل »الأهرام« أن الإعداد يجرى بقوة لهذه الزيارة والتى يرجح أن تتم بنهاية العام. ومن أبرز مجالات التعاون المرشحة بقوة لحدوث طفرة: استيراد القمح (القمج الكازاخى من أعلى الأنواع، وتنتج كازاخستان 20 مليون طن من الحبوب وتستهلك 4 أو 5 ملايين فقط للاستهلاك)، وبالإضافة إلى ذلك هناك مجالات التعاون فى الطاقة وعلوم الفضاء والأدوية والسياحة، وتجرى حاليا مشاوات لعقد اتفاقية تجارة حرة ما بين مصر ودول الاتحاد الأوراسى (يضم روسيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، وقيرغيزيا أخيرا). وتأمل مصر فى أن تستثمر كازاخستان فى منطقة الدعم اللوجيستى بدمياط. ومن جانبه أكد السفر المصرى لدى كازاخستان السفير هيثم صلاح إبراهيم أن العلاقات المصرية الكازاخية تشهد تطورا كبيرا، وآمالا واسعة فى تعزيزها فى جميع المجالات سواء فى تعظيم حجم الاستثمارات، أو التعاون فى مجال استيراد القمح من كازاخستان، أو التعاون فى مجال الطاقة، والعلوم والتكنولوجيا وعلوم الفضاء. وأشار إلى أن كازاخستان تشهد نهضة كبيرة، حيث أصبحت واحدة من الدول الخمسين الأكثر تطورا فى العالم، كما أن إنشاء عاصمة جديدة خلال فترة وجيزة من أبرز الإنجازات. وأحسب أن كازاخستان استطاعت أن تقدم نموذجا للتعايش السلمى ما بين أكثر من 100 عرقية مختلقة، فضلا عن نجاحها فى تحديد وتثبيت الحدود مع جيرانها. ومن أهم الخطوات قيامها بتفريغ البلاد من الأسلحة النووية لتقدم نموذج للدولة المحبة للسلام. ويبقى أن التاريخ يكتبه القادة الكبار والأمم والصاعدة، وبلاشك فإن تجربة كازاخستان فى ظل قيادة نازارباييف سوف يتوقف أمامها الكثيرون. ودون شك فإن أى تجربة بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، إلا أن ما تشهده كازاخستان من نهضة سوف يسجل لها ولقائدها. ويجعل من تقوية الأواصر مع هذا البلد الصاعد بقوة أمرا مهما للغاية لصالح مصر وأمنها ومصالحها القومية.