ضاقَ صدرُ السادات بتسعة عشر نائباً فقط من ذوي الصوت المُختلِف، فحّل البرلمان وأجري انتخاباتٍ مزورة أسقطهم فيها جميعاً فكانت بداية النهاية. أما مبارك فقد قَّدّم نموذجين في التزوير .. النموذج الأول أفرز ما سُمِيّ شعبياً ببرلمان الشاذلي حيث يُسمَحُ بنجاح عددٍ من المعارضين لايمثلون أغلبيةً تصويتيةً لكنهم كانوا بمثابة متنفسٍ لبخار الغضب يؤجل الانفجار إلي حين .. النموذج الثاني اعتمد نظرية (لماذا أُزَوّر معظم الدوائر ما دُمتُ أستطيع تزويرها كلها) وقد أفرز برلمان 2010 الذي سُمِّيَ شعبياً برلمان عز ولم يكن فيه إلا معارضٌ واحدٌ، فانفجر مرجل الغضب بعد ذلك بشهرين في يناير 2011 . المُدهشُ والمُفجِعُ أن يكون بيننا الآن من يدفع في اتجاه استنساخ برلمان 2010، يؤكد ذلك ما حدث مع (صحوة مصر) .. منذ نحو عامٍ تواصل نحو سبعين من المهمومين الحقيقيين بمصر لاستطلاع الرأي فيما ينبغي عمله بشأن مجلس النواب القادم .. (أسماء تجد فيها بهاء طاهر وجلال أمين وعبد الجليل مصطفي وسكينة فؤاد ومجدي يعقوب وسيد حجاب والراحل نور الشريف علي سبيل المثال لا الحصر) لا أحدَ منهم كان راغباً في الترشح، وإنما كان هَمُّهُم المشترك هو وضع آلياتٍ تضمن ترشيح عددٍ من النماذج الإنسانية لمجلس النواب علي أساس الكفاءة والجدارة والتنوّع، وليس علي أساس المُحاصصة الحزبية، وتتكون منهم (نواةٌ قِيَمِيَة) تقدم نموذجاً قابلاً للتكرار والتوسع في البرلمانات المقبلة وتمحو بالتدريج الصورة النمطية المبتذلة لمعظم نواب البرلمانات السابقة .. ولتحقيق ذلك وُضِعت معايير صارمة وتم تشكيل لجنة محايدة تختار المرشحين بناءً علي هذه المعايير ولا يَحق لأعضائها الترشح .. وسُمِيَ هذا الكيانُ (صحوة مصر). لم تطمح (صحوة مصر) لتكوين أغلبية أو تشكيل حكومة وتركت التنافس علي المقاعد الفردية بالكامل لمن يريد .. بل لم تَسْعَ لتكوين تكتلٍ مُعارضٍ وإنما مجرد نواة صغيرة من أشخاص محترمين لديهم القدرة علي أداء الدور الرقابي والتشريعي للنائب .. ومع ذلك يبدو أن في (الأجهزة) من يُفضل مجلساً مُطيعاً خالياً من أي صوتٍ مختلف .. بدأت ضغوط (الأجهزة) علي المنضمين لقوائم صحوة مصر بالترهيب مع البعض والترغيب مع آخرين للانضمام إلي قائمةٍ بذاتها قيل إنها تمثل (الدولة) وأنها تموت (في حُبُ مصر) وكأن الآخرين يكرهونها (!) .. ضغوط حقيقية وليست شائعاتٍ، وإذا كانت دواعي عدم البَوْح بأسماء من رضخوا لهذه الضغوط مفهومةً، فإن رجلاً بقامة اللواء أ.ح/ نجيب عبد السلام قائد الحرس الجمهوري الأسبق (ومن مؤيدي رئيس الجمهورية) أزال الحَرَجَ بتصريحه للمصري اليوم بأنه تعرض لهذه الضغوط التي تمثلت في رسائل شفهية واتصالاتٍ تليفونيةٍ لإجباره علي ترك صحوة مصر، وقد مرّ أسبوعٌ علي هذا التصريح ولم يَنْفِهِ أحدٌ أو تهتز له دولة .. في الوقت نفسه كان مشهد التناحُر للانضمام إلي قائمة (الدولة) صورةً طبق الأصل من مشهد المتدافعين للترشيح تحت لافتة الحزب الوطني (بنفس الأشخاص تقريباً) وقتَ أن كان ترشيحُ الحزب المنحل لشخصٍ ما يضمنُ له النجاح حتي بدون انتخابات. وبالتوازي مع ضغوط (الأجهزة)، صدرت قوانين خاصة بالانتخابات البرلمانية كان باكورتها ما سُمِّيَ باللجنة العليا للانتخابات البرلمانية، فإذا بها لجنةً شبه إدارية ليس لها سلطان علي مؤسسات الدولة، قراراتها غير محصنةٍ ويستطيع أي شخصٍ مجهولٍ (أو مدفوعٍ) أن يطعن فيها بما يجعل قيام البرلمان واستمراره رهناً بإرادة من يُحرّك هذا الطاعن المجهول .. تفننت اللجنة في إرباك الناخبين والمرشحين بعددٍ من القرارات غير المنطقية وتدخلت الحكومة بمزيدٍ من القرارات المُربِكة، وعزا البعضُ ذلك في البداية إلي الفشل والتخبط الإداري ثم شيئاً فشيئاً أصبح لدي الكثيرين يقينٌ بأن الأمر مقصودٌ لذاته .. وكأنما فُصِّلت هذه القرارات لتعجيز القائمة التي تعتمد علي ثِقَلِ السُمعة لا علي امتلاء الجيب .. إلي أن أصبح انسحابُ صحوة مصر إجبارياً .. الآن (ستتنافس) علي مقاعد القوائم خمسةُ تحالفاتٍ، كُلُها يدّعي أنه ظهيرٌ للدولة .. جورج الخامس ينافس جورج الخامس .. وقد احتفل (الظهيرُ) الأكبر بنجاح إحدي قوائمه بالتزكية قبل الانتخابات بشهرٍ كاملٍ (!)، فإذا بظهيرٍ آخر يتهمه بسرقة ملفاته (!) .. أسفي علي دولةٍ يكون هؤلاء ظهراءَها. إن تعريف البرلمان الذي تتقدم به الأمم وتستحقه مصر هو أنه بيتُ الأُمّة الذي يتسع لكل الآراء .. أَمّا بيتُ الطاعة فلا يَصلُح إلا للنواشز من النساء وقد اختفي من واقعنا منذ عدة عقود .. فيا من لم تتعلموا شيئاً من دروس الماضي القريب .. هنيئاً لكم برلمان 2015 وإن كُنا نُشفق عليكم وعلي مصر من تَبعاته. لمزيد من مقالات م يحيى حسين عبد الهادى