لقد كان شاعرنا الكبير أحمد شوقى أحد شعراء الوطنية الكبار الذين جرت بعض أبياتهم مجرى المثل , وذلك حيث يقول : وَلِلأَوطانِ فى دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا وحيث يقول : وطنى لو شغلت بالخلد عنه نازعتنى إليه فى الخلد نفسي وهفا بالفؤاد فى سلسبيل ظمأ للسواد من عين شمس وحيث يقول فى منفاه : اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسى اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي وسلا مصر: هل سلا القلب عنها أو أسا جرحه الزمان المؤسي كلما مرت الليالى عليه رق والعهد فى الليالى تقسي وكان شعراء المهجر يدركون معنى كلمة وطن , حتى قال شاعرهم : أخت العروبة هيئى كفنى أنا عائد لأموت فى وطني وقد ضرب نبينا (صلى الله عليه وسلم) أروع المثل فى الاعتزاز بالوطن والوفاء بحقه , من ذلك ما كان منه (صلى الله عليه وسلم) حين أخرجه قومه فنظر إلى مكة نظرة مودع وخاطبها مخاطبة المحب الوفى : والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إليّ , ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت ، وظل (صلى الله عليه وسلم) يقلب وجهه فى السماء راجيًا أن يحول الله (عز وجل) قبلته إليها ليزداد على البعد ارتباطه بها، حتى نزل قول الله تعالى إكرامًا لحبيبه وحبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم) : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ » (البقرة : 144), وعندما فتحها الله (عز وجل) له وأعاده إليها فاتحًا منتصرًا, وسمع (صلى الله عليه وسلم) رجلا يقول: اليوم يوم الملحمة, قال (صلى الله عليه وسلم) : من هذا ؟ اليوم يوم المرحمة, اليوم يعظم الله الكعبة, ثم نادى فى أهل مكة، وهم الذين آذوه وأخرجوه وحاولوا قتله, وقتلوا أعز الناس إليه عمه حمزة بن عبد المطلب وغيره من خيرة أصحابه (صلى الله عليه وسلم), ناداهم قائلاً: يا أهل مكة, ما تظنون أنى فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم، وابن أخ كريم , فقال (صلى الله عليه وسلم) : اذهبوا فأنتم الطلقاء, وهو الذى جمعهم قائلا : إِنَّ الرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ , وَاللَّهِ لَوْ كَذَبْتُ النَّاسَ جَمِيعًا مَا كَذَبْتُكُمْ ، وَلَوْ غَرَرْتُ النَّاسَ مَا غَرَرْتُكُمْ. ولما هاجر (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة واتخذها وطنًا ومستقرًا كان وفِيًّا لها غاية الوفاء، ولما قفل (صلى الله عليه وسلم) من إحدى الغزوات وأعطى بعض الناس أكثر مما أعطى الأنصار من أهل المدينة، ووجد فى نفوس بعضهم حاجة ، جمعهم وقال لهم : يا معشر الأنصار لقد بلغنى أن شيئًا قد أصابكم من لعاعة الدنيا، أى متاعها الزائل ، يا معشر الأنصار إنى آثرت بعض الناس بالعطاء ووكلتكم إلى ربكم , إلى دينكم , إلى إيمانكم، يا معشر الأنصار أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وأن ترجعوا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى دياركم ، يا معشر الأنصار والذى نفسى بيده لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم بارك للمدينة فى أهلها ومدهم وصاعهم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ، حتى بكوا جميعًا، وقالوا: لقد رضينا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم) حظا وقَسْما ونصيبًا . هذا هو الإيمان ، وهذا هو الوفاء ، وهذه هى معانى الوطنية الصادقة ، والوفاء الخالص، لا كهؤلاء المنافقين الذين عبر القرآن الكريم عنهم بقوله تعالى: ا وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ » ( التوبة : 58 ) ، وقوله سبحانه : ا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (النساء : 141) . على أن سنة الله (عز وجل) فى كونه وخلقه أن يميز الخبيب من الطيب ، «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ» ( الرعد : 17) ، ويقول سبحانه : ا قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ( المائدة : 100 ) . فالوطنية عطاء ووفاء على حد قول الشاعر : بلدى وإن جارت على عزيزة أهلى وإن ضنوا على كرام فما أحوجنا أن نعرف للوطن حقه ومكانته , وأن نكون أوفياء له , نرد له الجميل , ونعمل على نهضته ورقيه , ونعلى المصلحة العليا له على أى مصلحة شخصية أو حزبية أو طائفية أو نفعية, فقد قالوا: رجل فقير فى دولة غنية خير من رجل غنى فى دولة فقيرة. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة