لاشك أن المشروعات الكبرى أحد أهم العوامل التي ترسخ الانتماء للوطن, وتشعر المرء بقيمته, وتعزز الولاء له, غير أن الوطني الصادق هو الذي يشعر بهذا الولاء والانتماء على كل حال وفي كل حال، في الشدة والرخاء، في السراء والضراء، في العسر واليسر، في المكره والمنشط, إن كبا وطنه كان على استعداد تام لبذل النفس والنفيس حتى يسلم الوطن من كبوته, ويستعيد مجده وعافيته, فالوطنية لديه عطاء لهذا الوطن, وردّ لجميله, وعشق لترابه وأرضه وسمائه, لأنه ينظر إليه بعين المحب, كهذا الذي قيل له ما بلغ بك حب فلانة ؟ فقال: بلغ ذلك بي أني أرى الشمس فوق منزلها أجمل منها فوق منزل جيرانها, فلسماء الوطن ونجومه وكواكبه وأرضه وترابه ومعالمه لمسة تدرك ولا توصف, فما أن يقلع الإنسان الوطني من وطنه حتى يشعر أن جزءًا منه ليس فيه، قد تركه مع الوطن قبل أن يغادره أو يرحل منه, وما أن تطأ قدمه أرض وطنه حتى يشعر أن ذلك الجزء الذي كان منفصلا عنه قد رد إليه . على مائدة الوطنية تربينا، من مائها العذب نهلنا, فقد سافرت كثيرًا, وأكرمت في سفري أكثر, غير أني في كل مرة كانت تطأ قدمي أرض وطني عند العودة إليه والارتماء في أحضانه أشعر بأمان خاص وارتباط خاص، والتصاق الروح بالوطن التصاقًا فريدًا, فالإنسان بلا وطن جسد بلا روح، وشيء بلا معنى. ويزداد هذا الارتباط أكثر وأكثر بمسقط الرأس، وموطن الصبا، فهو موضع حنين دائم، لارتباطه بذكريات الطفولة وريعان الشباب, وحنو الوالدين والأهل الكرام, ولا سيما أنه يرتبط ببساطة وطيبة وكرم أهل الريف على ما هم فيه من شظف العيش وصعوبة الأحوال, غير أن كرم النفوس يفوق بكثير ضيق ذات اليد، على حد قول الشاعر: وإذا طلبت إلى كريم حاجة فلقاؤه يكفيك والتسليم وقول الآخر: تهلل قبل تسليمي عليه وألقى ماله قبل الوساد وقول زهير بن أبي سلمى: تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله لقد نظر نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مسقط رأسه إلى مكةالمكرمة حين خرج منها مهاجرًا إلى المدينةالمنورة، فقال: والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إلىَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. وظلّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقلب وجهه في السماء رجاء أن يوجهه الله عز وجل في صلاته إليها لما لها من أثر ومكانة وارتباط في نفسه ( صلى الله عليه وسلم )، حتى نزل قول الله تعالى " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ " ( البقرة : 143 )، غير أن بعض من لا يفهمون لا الدين ولا معاني الوطنية ولا حتى الإنسانية يصرفون هذه المعاني على غير وجهها ، يتنكرون لماضيهم وحاضرهم، لأهلهم ووطنهم، يبيعون كل ذلك بثمن بخس، في أنانية مقيتة، لا تلمس فيها وفاء لأهل ولا لوطن ولا لصديق، ولا حتى لأيام الصبا والشباب. إننا لفي حاجة ملحة إلى غرس مبادئ وقيم الوطنية من جديد، في حاجة إلى دراسة تاريخ الوطن، وأدباء الوطنية، وما قدمه العظماء من بطولات وتضحيات في سبيله، فحين نقرأ أدب الجيل الماضي لدى الشعراء العظام الذين عزفوا على قيثارة الوطنية نجد أننا في حاجة ملحة إلى دراسة هذا الشعر دراسة واعية متأنية، ونعجب أننا لم نعد قادرين على إنتاج مثل هذا الأدب والإبداع الراقي، الذي تتجذر فيه المشاعر الوطنية في أعماق الأدباء شعرًا ونثرًا، قصة ورواية، رجزًا وأنشودة، ويكفي أن نقف عند بعض أبيات حافظ في قصيدته الرائعة " مصر تتحدث عن نفسها" لنقف على أثر الأدب الوطني الراقي في النفوس وفي إلهاب المشاعر الوطنية وإذكاء الحماس الوطني، حيث يقول: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودراته فرائد عقدي فترابى تبر ونهرى فرات وسمائى مصقولة كالفرند ورجالى لو انصفوهم لسادوا من كهول ملء العيون ومرد لو أصابوا لهم مجالا لأبدوا معجزات الذكاء فى كل قصد.. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة