فاجأتنا الصحف خلال الأسبوع الماضى بعدد من التصريحات الصادرة المنسوبة لوزير الاستثمار أمام مؤتمر اليورومونى. المؤتمر كما نعرف هو الحدث الذى دأبت مؤسسة اليورومونى البريطانية على تنظيمه سنويا فى مصر منذ قرابة العشرين عاما بدعوى تشجيع واجتذاب الاستثمارات الأجنبية إلى بلادنا. دور المؤتمر طوال تلك السنوات لم يتجاوز السبوبة وجلب الإيرادات لمؤسسة اليورومونى وبعض الدعاية للبنوك والشركات المصرية الراعية، و لم يحدث أن رأينا استثمارات تتدفق أو مستثمرين يتسابقون إلينا فى أعقاب ذلك المؤتمر على مر كل تلك السنوات. المهم أنه تحت دعوى تشجيع واجتذاب المستثمرين الأجانب، وكما أوضحت الصحف، ورد فى المؤتمر عدد من التصريحات التى تضر مباشرة بالاقتصاد المصرى وبمصالح المواطنين، وتذهب إلى حد التناقض الصريح مع الدستور الذى صوتنا عليه بأغلبية ساحقة ليكون عقدا يحكم علاقتنا بكل حكومة وكل رئيس. عندما نقرأ تصريحا بأن تخفيض قيمة الجنيه المصرى لم يعد اختياريا فإننا نقول إن هذا بكل تأكيد تصريح غير مسئول. فكل من لديه عملات أجنبية سيمتنع عن بيعها انتظارا للحصول على مقابل أكبر، وكل مستورد يحتاج إلى نقد أجنبى سيهرول إلى الشراء اليوم قبل أن يرتفع السعر غدا، و كل مضارب يرغب فى تحقيق ربح سريع سيتدافع لشراء النقد الأجنبى اليوم أملا فى بيعه بسعر أعلى غدا أو بعد غد. باختصار هذا التصريح غير المسئول يترتب عليه مباشرة حجب النقد الأجنبى عن البنوك من ناحية وزيادة الطلب عليه من ناحية أخري، وبالتالى زيادة الضغوط على سعر صرف الجنيه المصري.. وهذا هو ما حدث بالفعل على مدى الأيام القليلة الماضية. ارتفع سعر الدولار خارج الجهاز المصرفى ليتجاوز الثمانية جنيهات. وبغض النظر عن النفى الرسمى لتلك التصريحات فإن آثارها على سوق الصرف قد حدثت بالفعل. إننا لا نعرف حقا ما ذا تستهدف تلك البلبلة! هل تستهدف أن تتزايد الضغوط على سعر الصرف إلى الحد الذى يضطر معه البنك المركزى إلى التخفيض الفعلى لقيمة الجنيه؟ هل الهدف هو تخفيض التكلفة على المستثمرين الأجانب حتى ولو ترتب على ذلك ارتفاع معدلات التضخم واشتعال أسعار السلع فى السوق المحلية وازدياد صعوبة الحياة على الغالبية الساحقة من المواطنين؟ الكل يعرف أن مصر مستورد صاف للسلع الغذائية والمنتجات البترولية والسلع المصنوعة وقطع الغيار والآلات والمعدات. تخفيض قيمة الجنيه يعنى ارتفاع أسعار كل السلع المستوردة أضعافا مضاعفة لأن الاحتكارات المحلية ستسارع إلى رفع صوتها بالشكوى من ارتفاع سعر الدولار وترفع الأسعار دون ضابط أو رابط. وزير الاستثمار يلوح بأن تخفيض قيمة الجنيه يؤدى إلى زيادة تنافسية صادراتنا التى تصبح أرخص ثمنا أمام المستورد الخارجى. يردد طبعا رجال الأعمال لا يكفون عن المطالبة بتخفيض قيمة الجنيه المصري، وكأن كل ما يحول بينهم وبين الأسواق الخارجية هو فقط ارتفاع أسعار منتجاتهم. يتجاهلون أن قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار قد انخفضت بالفعل انخفاضا كبيرا خلال السنوات الأربعة الماضية وانخفضت مجددا خلال الشهور القليلة الماضية، ومع ذلك فلم نر المصدرين يحققون طفرة فى حجم الصادرات أو غزوا للأسواق الخارجية! ثم ما دخل وزارة الاستثمار أصلا بتحديد أو الإعلان عن سياسة سعر الصرف. البنك المركزى المصرى هو الجهة الوحيدة المسئولة فى هذا الشأن. والمؤكد أننا لم نسمع بنكا مركزيا فى أى دولة من دول العالم يعلن مسبقا عن نواياه بشأن سعر الصرف أو أدوات السياسة النقدية، فما بالنا لو جاء الإعلان من جهة غير مخولة؟ وفى تصريح صادم آخر أعلن وزير الاستثمار فى مؤتمر اليورومونى عن نية الحكومة فتح الباب للاستثمارات الأجنبية فى مجال التعليم. طبعا عندما تعلن الحكومة أنها ستلجأ للقطاع الخاص للقيام بالاستثمارات اللازمة لبناء وتجهيز المدارس الحكومية كحل سريع لمواجهة مشكلة نقص موارد الدولة، نقول للضرورة أحكام، طالما أن تلك المدارس ستسلم فى النهاية للدولة، التى تظل مسئولة عن القيام بدورها الأصيل فى توفير الخدمة التعليمية لكل أبنائنا بمستوى مرتفع من الجودة والكفاءة، كما نص عليه الدستور. إلا أن المشاركة فى بناء المدارس وتجهيزها ثم تسليمها للحكومة شئ وإقامة المزيد من المشروعات التعليمية الربحية شئ آخر. يكفينا ما لدينا من مشروعات ربحية تحت مسمى مدارس تستنزف دخول الأسرة المصرية. مصروفات التعليم فى تلك المدارس صارت تتجاوز قدرات الطبقة المتوسطة. هل يعقل أن تكلفة إلحاق طفل بالحضانة أصبحت تدور حول عشرة آلاف جنيه؟ لن نتحدث عن المبالغ الخيالية التى يتم دفعها كمصروفات فى المدارس الإنترناشيونال التى يلتحق بها أبناء الشريحة العليا من أغنياء المجتمع، فهؤلاء قادرون على دفع تلك المبالغ وأكثر. لكن تلك الشريحة لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من المواطنين، ولا أتصور أن همنا الأول هو توفير المزيد من المدارس الفاخرة ونظم التعليم الدولية لأبنائهم. لا أتصور أننا نريد نشر المزيد من الاغتراب فى مدارس يحتفل فيها أبناؤنا بعيد الهالوين وعيد الشكر وتتحدد مقرراتهم التعليمية فى هذه الدولة الأجنبية أو تلك، أو مدارس تكرس الأفكار الظلامية وتخرج لنا من يكفرنا ويكفر بالوطن. ثم لمن ستتوجه تلك المدارس الربحية؟ هل المطلوب المزيد من الاستنزاف لدخول الطبقة المتوسطة؟ هل المطلوب قصر التعليم وفرص العمل الجيدة على أبناء القادرين؟ هل الهدف من تصريحات تخفيض قيمة الجنيه وتصريحات خصخصة التعليم هو بيع أصولنا وهويتنا وعقول أبنائنا للمستثمرين الأجانب، و كمان بأرخص الأسعار؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى