لعل من أهم جوانب ضعف صناعتنا السينمائية غياب أفلام التحريك، وهى ما كنا نعرفه صغارا باسم أفلام الكارتون، أو توم وجيرى، أو ميكى ماوس، بينما كان فن التحريك السينمائى فنا وصناعة مزدهرين طوال تاريخ السينما، ومن المؤكد أنه أصبح الآن يحتل مكانة مهمة أكثر من أى وقت مضى، حتى لا يكاد أن يمر أسبوع فى أمريكا دون أن تشهد دور العرض أفلاما طويلة جديدة من هذا النوع، بفضل التقنيات شديدة الإتقان التى ظهرت فى هذا المجال، لكن الأهم هو أن ذلك أتاح لصناع هذه الأفلام أن يمارسوا تأثيرا «سياسيا» عميقا لدى المتفرجين، والأكثر أهمية هو أنها لم تعد مقتصرة على مستوى تذوق الأطفال فقط، بل إنها تتوجه برسائلها إلى الكبار أيضا. لكن مفهوم أفلام الكارتون ظل بالنسبة لنا مرتبطا بالطفولة، منذ المحاولات البدائية الأولى التى ظهرت فيها شخصية تدعى «مشمش أفندى» على يد الأخوين فرانكل فى الثلاثينيات، مرورا بمحاولات الفنان مهيب فى مجال الإعلانات بفن التحريك فى الستينيات، حتى انتهى الأمر إلى «بكار» ورفاقه من الشخصيات الكارتونية الأخرى. وهذا التجاهل من ذلك الجانب المهم فى السينما هو الذى أدى فى فترة ما إلى انتشار أفلام يابانية متواضعة بين أطفالنا، مثل «جريندايزر» أو «كابتن ماجد» أو «سلاحف النينجا». والمفارقة هنا أن فن التحريك اليابانى يمثل نوعا بالغ الرقى والنضج بين أقرانه فى الصناعات الأخرى، لكننا استوردنا أكثر ما فيه سذاجة، لنؤكد لأنفسنا مرة أخرى وليست أخيرة أن أفلام الكارتون ليست إلا لتسلية الأطفال. وربما وجد بعض من يعملون بصناعة السينما مبررا لغياب هذه الأفلام بسبب صعوبة تنفيذها، أو استحالة تحقيق النجاح فى التنافس مع الأفلام الأمريكية، ولعل هذا سبب وجيه فى جانب من الأمر، لكن لماذا إذن أقسام التحريك فى معاهدنا السينمائية؟ ولماذا لا نستفيد حقا من السهولة النسبية التى تحققت بفضل الإمكانات الكومبيوترية الجديدة؟ ليس مهما أن تصل إلى الكمال فى الإبهار التقنى، بقدر ما يجب عليك أن تحاول الوصول إليه فى الأفكار، وهذا ما حدث على سبيل المثال فى فيلم الفنانة الإيرانية المهاجرة مارجان ساترابى «بيرسيبوليس» (فى إشارة إلى بلاد الفرس أو إيران)، الذى قامت بتنفيذه بالأبيض والأسود بأسلوب يحاكى فن خيال الظل القديم، لتحكى فيه بنضج بالغ تجربتها الذاتية المريرة، التى أدت بها إلى المنفى الاختيارى فى أوروبا. وإن كنت تبحث عن مثال آخر، من المؤكد أنه أكثر خبثا، فهو الفيلم الإسرائيلى «رقصة الفالس مع بشير» (فى إشارة لبشير الجميل)، والذى يحكى من وجهة النظر الإسرائيلية قصة مذحة صابرا وشاتيلا، ليختار المخرج أسلوبا خاصا فى التحريك، لكى يضفى على الفيلم غلالة تشبه الحلم، لأنه يزعم كاذبا أنه لا يتذكر التفاصيل تماما، ليمثل الفيلم رحلته لاستعادة ذاكرة الحقيقة الصهيونية الزائفة. نسوق هذه الأمثلة لنشير إلى الإمكانات السياسية الكامنة فى فن التحريك، وتخرج به من دائرة الأفلام الطفولية. وحتى فى الأفلام الموجهة للأطفال تجد رسائل سياسية بالغة الأهمية، وهو ما يمكن توضيحه فى وجهتى النظر السياسيتن المتناقضتين لاثنتين من الشركات السينمائية الأمريكية، وهما وجهة النظر الرجعية لشركة دريم ووركس وأفلامها، وتلك التقدمية لشركة بيكسار وأفلامها. ففى عام 1998 ظهر فيلمان يتناولان حياة النمل، وفيلم الشركة الأولى يدعى «النملة زى»، والآخر للشركة الثانية هو «حياة حشرة». فعلى حين كان الفيلم الأول يتسم بالنزعة الوجودية الخالصة، فى تركيزه على البطل النملة الذى يشعر بالانسحاق لأنه لا يشعر بالفردية وسط ملايين النمل الذين يشبهونه، كان الفيلم الثانى يتحدث عن بطل نملة أيضا يشعر بخطر سرب مهاجم من الجراد، فيدعو الحشرات الأخرى للوحدة وضم الصفوف معا لمواجهة العدو. أنت هنا أمام رسالتين سياسيتين مختلفتين تماما، تدعو الأولى للنزعة الفردية والبحث عن الخلاص الذاتى فقط، بينما تقول الثانية إن الوسيلة الوحيدة لنجاة الصغار، فى مواجهة توحش الكبار، هو التوحد والوعى. ولقد ترددت هذه الرسالة التقدمية الأخيرة فى كل أفلام شركة بيكسار، حتى إن فيلما مثل «شركة الوحوش» يرمز إلى أمريكا التى تستمد قوتها من بث الخوف فى نفوس الأطفال الصغار، الذين يجب عليهم ألا يخافوا من قوة الوحوش التى تعتمد على الإيهام أكثر مما تعتمد على قوة حقيقية، كما أن فيلم «البحث عن نيمو» يحكى عن طفل السمك الصغير (بل المعاق أيضا) نيمو الذى ينتهى به الأمر حبيسا فى حوض زجاجى مع مجموعة متنوعة من الأسماك الأخرى، وهو لا يتوقف عن الحلم بالحرية، التى لا يستطيع تحقيقها إلا بتكاتف السمك كله لتحقيق الانعتاق. الجميل فى هذه الأفلام أنها لا تلجأ أبدا إلى أسلوب تلخيص رسالتها بالنصائح المباشرة، كما قد نفعل نحن أحيانا حتى فى أفلام الكبار، والأجمل أنها أصبحت تتوجه إلى مستويات مختلفة فى التلقى، بما يشجع كل أفراد العائلة على الذهاب إلى الفيلم، فهناك ما يدركه الصغار بسهوله، وهناك أيضا ما يفوت على إدراكهم ولا يتذوقه إلا المتفرجون من الكبار. هل تدرى ماذا نجحت هذه الأفلام فى تحقيقه؟ إنها توقظ الطفل فينا، بقدر ما تساعد الطفل على النضج. فهل نطمع فى أن تعاملنا أفلامنا معاملة مثل هؤلاء الأطفال؟! لمزيد من مقالات أحمد يوسف