ما يحدث فى سوريا يمثل متوالية حسابية من الأحزان. مثل كل مآسى العرب لا تنتهى المأساة بوقوعها بل تظل تفرز عدداً من المآسى الجديدة. حربٌ أهلية.. إرهاب يقيم لنفسه دولة.. مسيحيون نازحون.. مهاجرون يلقون بأنفسهم إلى البحر والموت والمجهول .. وطن عربى يتفتت. تراهن عليه قوى عالمية وإقليمية وكأنه مُمَدّد على مائدة «الروليت» وحوله يتلمظ المتنافسون والمراهنون والمرابون. آلة القتل تفرك حتى الآن ربع مليون ضحية. أصبحت مسألة الاختيار فى سوريا عبثية وعدمية . عليك إذا كنت سورياً أو مهموماً بالقضية السورية أن تختار بين مُرّين (مثنى مُرْ) هما النظام المستبد أو الفوضى التى تقود إلى انهيار الدولة وتفتت الوطن. فوضى يختلط وسط كرنفالها الدموى وطنيون أحرار، وعولميون تابعون لقوى أجنبية، وممثلو قوى إقليمية من نفوذ إيرانى قوى، ودعم خليجى مالى، ومحاولات مصرية لمنع سقوط حصن عربى مع هؤلاء إرهاب غادر وفاجر قادم بليل من آشتات الأرض مدعوم من قبل (أشباح) دولية لا نراها يحاول أن يقيم لنفسه دولة مزعومة. لن تستطيع أن تميّز جيداً بين كل هؤلاء باستثناء قوى الإرهاب. كيف تفرّق مثلاً بين وطنيٍ حر وبين عولميٍ مجهول الانتماء والأجندة يحمل نفس شعارات الحرية؟ لقد عانينا وما زلنا من التفرقة ذاتها فى مصر. أزمة الاختيار بين الاستبداد والفوضى ستظل تلاحق العرب لعقود طويلة مقبلة. بالطبع لا يمكن اختزال كل جوانب المأزق العربى فى ثنائية الاستبداد أو الفوضى. مازال ثمة من يعتقد فى إمكانية تخصيب الاستبداد بالعدل. نجحت عملية التخصيب بصورة ما خلال الحقبة الناصرية ، لكن يبدو أن الأزمة السورية قد تجاوزت تماماً هذه الرؤية. صعبٌ بل محالٌ تصور قيام العدل على أنقاض جماجم ربع مليون ضحية. الوجه الحاضر للمأساة السورية يتجلّى اللحظة فى تدفقات اللاجئين السوريين إلى أوروبا. المشاهد الموجعة التى اقترنت بفرار هؤلاء اللاجئين وموتهم غرقاً وهم يبحثون عن ملاذ تمثل أحدث، وليس آخر، فصول المأساة. مشهد الطفل البريء إيلان كردى الذى مات غرقاً مع آخرين غيره يتجاوز الوصف. لكن ما يسهل ويجدر وصفه هو مشهد المقارنة بين رد الفعل الأجنبى فى دول مثل ألمانيا وفرنسا والسويد و رد الفعل العربي. هنا تبدو المقارنة موجعة بالفعل. بالطبع صدرت وستصدر ردود فعل عربية هى أقرب ما تكون لردود (الكلام) وليس (الفعل). وربما تتطور ردود (الكلام) إلى دفع أموال. لكن الأموال لا تنقذ وطناً من السقوط. على الجانب الآخر تعالوا نرى ماذا (فعل) الآخرون؟ ألمانيا وفرنسا سلكتا مسلك الأمم الكبيرة وأعلنتا فى شجاعة استعدادهما لتحمل مسئوليتهما الأخلاقية فى استقبال اللاجئين. خرجت المظاهرات الشعبية فى أكثر من بلد أوروبى تطالب باستقبال اللاجئين السوريين. وصل الأمر إلى حد اشتراك وزراء أوربيين فى بعض هذه المظاهرات. رئيس وزراء فنلندا يعرض منزله الخاص بشمال البلاد لإيواء طالبى اللجوء طالباً من المواطنين والكنائس والمنظمات الخيرية تقديم المأوى للاجئين. وزيرة خارجية السويد تبكى فى برنامج تليفزيونى على الهواء. موقف بابا الفاتيكان بدا أشد تأثيراً وأكثر دلالة من موقف مؤسسات إسلامية كبرى. وزراء خارجية الاتحاد الأوروبى يعقدون اجتماعاً فى لوكسمبورج لتنسيق جهود استقبال اللاجئين السوريين. ثم كانت المفاجاة حين طالب زعيم المعارضة الإسرائيلية «يتسحاق هرتسوج» من الحكومة الإسرائيلية استقبال لاجئين سوريين فى إسرائيل، التساؤلات المؤلمة تتوالى: أين العرب؟ أين الحكومات والشعوب ومنظمات المجتمع المدنى؟ أين الجامعة العربية؟ حسناً.. استقبلت الدول العربية المجاورة لسوريا مثل لبنان والأردن والعراق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين. فى مصر نصف مليون لاجئ سورى يعامل الطلاب منهم نفس معاملة الطلاب المصريين. تبرعت الكويت بعدة مليارات. لكن ماذا عن الفتور العام فى الفضاء العربى من قضية اللاجئين السوريين؟ هل نفسر هذا الفتور بنقص الإمكانات والموارد؟ هل تخشى الدول العربية سياسياً من توافد اللاجئين السوريين عليها فى وقت تعانى فيه من أزمات سياسية؟ أم يتجاهل معظم العرب قضية اللاجئين السوريين لمخاوف أمنية مستقبلية؟ المفارقة هنا أن الدول الغربية التى تعانى من الإرهاب ومخاوف الأسلمة لم تتردد فى استقبال لاجئين مسلمين. وكان لافتاً تصريح «ميركل» الألمانية الشجاعة أن ألمانيا تستقبل هذا العدد من اللاجئين واعية بكم التحديات المستقبلية. لكن لماذا يصد العربى بابه أمام شقيقه الملهوف بينما يستقبله ويغيثه الألمانى والفرنسى والسويدى؟ عالج الكاتب البريطانى روبرت فيسك هذا السؤال تحت عنوان قاس وساخر هو لماذا يلجأ العربى إلى بلاد «الكفّار» بدلاً من بلاد الخليج؟ يُعبّر «فيسك» عن دهشته من ان اللاجئين السوريين قد أبحروا بقواربهم لا إلى المكان الذى كان يفترض أن يبحروا إليه ولكن إلى المكان الذى كان يوصف بالغرب المسيحى ويُنعت بالكفر. يقول روبرت فيسك لقد فرّ مئات الآلاف من المسلمين من الشرق الأوسط إلى أوروبا رغم افتقارها للإيمان الدينى لأن فكرة الإنسانية فيها ما زالت على قيد الحياة. يتحدث العرب إذن ليل نهار عن الرحمة تاركين للآخرين ممارستها. سؤال روبرت فيسك لا يضاهيه فى وجعه سوى سؤال آخر ألا تخشى الأنظمة العربية من أن ينتقل إليها السيناريو السورى فى الدولة التى كانت مثالاً للأمن والاستقرار؟ الواقع أن كل شواهد الحاضر العربى تقود إلى سؤال: بالأمس كان العراق واليوم سوريا.. فعلى من الدور غداً؟ قالوا... أُكِلتُ يَوْمَ أُكِلَ الثور الأبيض. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم