"الصين وجهت رسالة واضحة إلى العالم عن طريق احتفالات يوم النصر، وهى أننا ينبغى أن نعتز بالسلام الذى تحقق بصعوبة ونحميه".. بهذه الكلمات علق هونج لي،المتحدث باسم الخارجية الصينية، على انتقادات الفلبين حول كشف الصين عن أسلحة هجومية فى العرض العسكرى الضخم، الذى أقامته بمناسبة الذكرى ال70 لانتصارها فى الحرب العالمية الثانية، لكن المتابع لهذا الحدث الكبير منذ الإعلان الأول عن تنظيمه سيدرك أن بكين أرادت به إرسال مجموعة من الرسائل السياسية لأطراف عديدة. فالعرض العسكرى أو "استعراض النصر"، الذى شهدته ساحة الميدان السماوى "تيانآنمن" وسط العاصمة الصينيةبكين فى الثالث من سبتمبر الجاري، كان الأكبر فى تاريخ جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها عام 1949، ورغم أن الصين أكدت أكثر من مرة أنه ليس استعراضا لعضلاتها، ولكن للتعبير عن طموحها وتطلعاتها نحو السلام، فقد شارك فى العرض 12 ألف جندى و500 قطعة حربية و200 طائرة، وهذه إحدى الرسائل المهمة التى أرسلتها بكين من هذا العرض للداخل والخارج، ومفادها –حسب صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية- أن الصين أصبحت دولة قوية، رغم الصعوبات الاقتصادية التى تواجهها حاليا. وإذا كانت ضخامة الاستعراض العسكرى الصينى من حيث الشكل مثلت رسالة مهمة، فإن ما تضمنه من الأسلحة والمعدات المتطورة، التى صنعتها الصين بنسبة 100%، وتم الكشف عن 84% منها للمرة الأولى خلال هذا الحدث، حمل رسالة أخرى أن الصين، التى كانت تعانى خلال فترة الحرب العالمية الثانية من ضعف قوتها، أصبحت قوة كبيرة يجب أن يعمل لها العالم ألف حساب، فالأسلحة التى ظهرت خلال العرض تُظهر القدرات الكبيرة للتصنيع العسكرى الصيني، سواء من ناحية تطوير الأسلحة القديمة أو ابتكار أسلحة ومعدات جديدة بتكنولوجيا صينية، ومنها المقاتلات (جيه-15)، والتى تسمى ب"القرش الطائر"، وهى الجيل الأول من الطائرات المحمولة على متن حاملة الطائرات "لياونينج"، أول حاملة طائرات صينية، والصواريخ الاستراتيجية العابرة للقارات (دونجفنج-5 بي)، وقاذفات القنابل متوسطة المدى من طراز (اتش-6 كى )، التى طورتها الصين بنسبة 90%. وقد أرادت الصين أن ترسل رسالة مرتبطة برسالة القوة، حاولت من خلالها التأكيد للعالم أن قوتها ستكون لحماية السلام، وهو ما ظهر فى خطاب الرئيس الصينى شى جين بينج قبل بداية العرض العسكري، حينما قال: "أيا كانت القوة التى أصبحت عليها الصين، فإنها لن تسعى أبدا الى الهيمنة أو التوسع. ولن تلحق أبدا بأية دولة أخرى ما سبق أن عانته فى الماضي"، فى إشارة إلى معاناة الصين من ويلات الحرب العالمية الثانية"، ولتكون هذه الرسالة أكثر تأثيرا فى العالم أعلن الرئيس شى جين بينج أن الصين ستخفض عدد قواتها العسكرية بمقدار 300 ألف فرد، وعقب الخطاب أعلنت وزارة الدفاع الصينية أن هذا الخفض سيكتمل بنهاية عام 2017، ويعد هذا الخفض الرابع منذ الثمانينيات الذى تقوم به الصين، التى تملك جيشا قوامه 2.3 مليون فرد، لعدد قواتها العسكرية. وقد اعتبر المراقبون هذه الخطوة الصينية جزءا من حسن النية والرغبة فى نشر السلام، خصوصا بعد ازدياد القلق فى القارة الآسيوية، وباقى دول العالم من تنامى القوة العسكرية للصين، وما تشهده منطقة بحر الصين الجنوبى من توترات، ضخامة استعراض النصر الصينى فى 3 سبتمبر لم تقتصر على حجم القوات المشاركة فيه، أو كميات العتاد والأسلحة، لكنها شملت أيضا ضخامة المشاركة الدولية، حيث حضر العرض العسكرى فى ميدان تيانآنمن 24 زعيما من جميع أنحاء العالم، بينهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، والرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ورئيسة كوريا الجنوبية باك جون هاي، بالإضافة إلى ممثلين عن 19 حكومة، ورؤساء 10 منظمات دولية، على رأسهم بان كى مون، الأمين العام للأمم المتحدة، الذى انتقدت اليابان حضوره للمناسبة، وسفراء عدد كبير من الدول ببكين، وكانت هذه المشاركة الواسعة فى الحدث رسالة أخرى للتأكيد أن الصين لديها أصدقاء من جميع أنحاء العالم، ولها علاقات ودية مع عدد كبير من الدول. وقد أرادت الصين التركيز على مضمون هذه الرسالة، فلم توقف المشاركة فى استعراض النصر على القادة وممثلى الحكومات، لكنها دعت للمرة الأولى قوات عسكرية من 17 دولة تمثل قارات العالم، التى كانت ساحة للحرب العالمية الثانية، للمشاركة فى العرض العسكري، ومنها مصر التى شاركت بسرية حرس شرف مكونة من 81 ضابطا وصف ضابط وجنديا. وجاء توسيع قاعدة المشاركة لتأكيد وحدة الموقف العالمى تجاه النصر على الفاشية، والسعى إلى سلام دائم. وقبل أو بعد الاحتفالات عقد المسئولون الصينيون اجتماعات رفيعة المستوى تم خلالها التوقيع على سلسلة من وثائق التعاون بين بكين والدول الصديقة ومن بينها مصر وروسيا والسودان. إحدى الرسائل السياسية والدبلوماسية المهمة التى أرسلتها الصين خلال تنظيمها للعرض العسكرى بمناسبة الذكرى ال70 لانتصارها فى الحرب العالمية الثانية كانت تتعلق بروسيا والرئيس فلاديمير بوتين، فبعد الإعلان عن مشاركة الرئيس الروسى فى فعاليات العرض العسكرى قبل أشهر ظهر أن عددا من زعماء الدول الغربية لن يحضروا العرض، كجزء من مقاطعتهم لبوتين، لكن هذا الأمر لم يؤثر فى موقف الصين من مشاركة الرئيس الروسي، وتعليقا على عدم حضور رؤساء دول كبرى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا للمشاركة فى الاحتفالات الصينية، قال تشانج مين نائب وزير الخارجية الصينية فى مؤتمر صحفي: "لقد وجهنا الدعوة إلى قادة الدول المذكورة لمشاركة الشعب الصينى احتفالاته بهذا اليوم العظيم. لكن القرار يعود إليهم. أما بالنسبة إلينا، فإننا نحترم ونرحب بأى ضيوف"، وقد كان واضحا خلال وقائع يوم الاحتفال احتفاء الرئيس الصينى ببوتين، لتأكيد أمرين، أولهما أن العلاقات الصينية- الروسية قوية وفى تنام مستمر، والأمر الثانى أن الصين تتخذ مواقفها وعلاقاتها بالدول من واقع مصالحها، ولا تتبنى مواقف دول أخرى أيا كان حجمها، وأن بكين مستقلة تماما فى هذا السياق عن مواقف الدول الغربية من روسيا والرئيس بوتين. رغم الغياب اليابانى الرسمى عن حضور الاستعراض العسكرى الصيني، حيث لم يحضره سوى رئيس الوزراء اليابانى الأسبق توميشى موراياما بصفته الشخصية، ورغم تكرار التأكيد من جانب المسئولين الصينيين أن العرض العسكرى ليس موجها ضد أى دولة بعينها، وأن هذه الاحتفالات لا تتعلق بشكل مباشر بالعلاقات الصينية- اليابانية الحالية، فإن الرسالة الموجهة لليابان من هذه الاحتفالات لا يمكن أن تخطئها عين أى مراقب للحدث منذ بداية الإعداد له. فاليابان التى لم تبد أى تعليق رسمى حول العرض العسكرى الصينى انتقدت حضور بان كى مون أمين عام الأممالمتحدة للحدث، حيث قال كبير أمناء مجلس الوزراء اليابانى يوشيهايد سوجا إن بان كى مون "لا يجب أن يركز دون داع على ماض معين.. ينبغى على الأممالمتحدة أن تتخذ موقفا محايدا"، وهو ما رد عليه مكتب مون بالقول: "إن الأمين العام يعتقد أنه من المهم أن ننظر إلى الماضى وإلى الدروس التى تعلمناها وكيف يمكننا المضى قدما إلى مستقبل أكثر إشراقا". وكانت الرسالة الموجهة لليابان فى خطاب الرئيس الصينى خلال العرض العسكرى معبرة عن رغبة الصين فى أن تعترف اليابان بما ارتكبته فى حق الشعب الصيني، وأن يعتذر المسئولون بها عن ما جرى فى الحرب العالمية الثانية، حينما قال إن تاريخ البشرية له صحوات وكبوات، غير أنه سيتقدم بدون نهاية، مضيفا أن الانتصارات فى حرب مقاومة الشعب الصينى ضد العدوان اليابانى والحرب العالمية ضد الفاشية أظهرت أن القتال ضد تيار منطق التاريخ محكوم بالفشل، وهو ما يمكن اعتباره إشارة إلى بيان رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبي، الذى ألقاه الشهر الماضي، واعتبرته الصين بيانا "مراوغا"، حيث كانت تنتظر اعتذارا واضحا من آبى عن ما تصفه بكين ب"ماضى بلاده الاستعماري"، واعتبرت أنه "تحدى التاريخ والعدالة". وتعتبر الصين أنه لم يُوقع على اليابان العقوبة التى تستحقها بعد الحرب، وأن القوى اليمينية فيها مازالت تحاول تحدى النظام العالمى إلى اليوم، وأن الساسة اليابانيسن ينكرون عمدا تاريخ العدوان الذى شنته بلادهم. لكل هذه الأسباب يتأكد أن العرض العسكرى الصينى للاحتفال بالذكرى ال70 لانتصارها فى الحرب العالمية الثانية، والأول من نوعه للاحتفال بهذه المناسبة، وعلى الرغم من ضخامة المشاركة فيه، وحجم الأسلحة والعتاد، إلا أنه حمل طابعا سياسيا جدا، وتم توجيه رسائل كثيرة لأطراف عديدة من خلاله، وكانت إحدى الرسائل التى لا يمكن إهمالها أيضا الترويج للسلاح الصينى فى سوق عالمية تتميز بالمنافسة الشديدة فى هذا المجال.