مصر بخير وستظل بلد الأمن والأمان والحب والخير والسلام ما دامت تعيش بين أهلها ، هذه القلوب الطيبة الجميلة الرقيقة , يأنس الناس بأنسها ويسعدون بحبها وودها , وما تمتلأ به قلوبها من رحمة وشفقة بمخلوقات الله الضعيفة الأليفة , التي خلقها الله جلت حكمته لتعيش بين أهلها، وتحرسهم في ألفة أليفة ومودة صادقة تحي موات معان طيبة كادت تضيع من حياة المصريين ، بسبب ما يعاني منه أهل مصر المحروسة ، وما يقرؤنه ويسمعونه ويشاهدونه من أفعال شيطانية يندى لها جبين كل حر , ويأنف الحيوان الأعجم المفترس من فعلها لشدة هولها وفظاعتها . وليس ببعيد بل هو قريب ما فعلته داعش بعمال مصر في ليبيا , وبالطيار الأردني وبمئات الضحايا الأبرياء في سوريا وليبيا والعراق واليمن , وما تقوم به جماعة الإخوان الإرهابية من ترويع وقتل للآمنين وتدمير لمصالح البلاد والعباد , وما يقوم به بعض الإعلاميين من هجوم على ثوابت الدين والشرع الحنيف . لكن رحمة الله لن تغيب – بإذنه وفضله – عن مصر وأهلها الطيبين .. فها هي مريم البنا بهذه الرواية وما حفلت به من أحاسيس الحب والرحمة بالحيوان الأليف ؛ تأخذ بأيدي قرائها وتقودهم للعود الحميد إلى طريق الرحمة ويبدو أن مريم البنا وهي تضع الخيوط العريضة لروايتها «قمر» وقد وضعت نصب عينيها أحاديث سيد خلق ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم والتي يدعو فيها أمته إلى الرفق بالحيوان . ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش فوجد بئراً , فنزل فيها فشرب وخرج , فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش , فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني , فنزل البئر فملأ خفه , ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له . فقالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ فقال : «في كل ذات كبد رطبة أجر» .. وعلى معاني هذا النهج القويم الرحيم سارت مريم في روايتها , والتي اختارت لافتتاحها تصوير حالة الرعب والخوف والقلق لتشرك قارئها معها في الخوف الذي انتابها طوال الليل مما حدث من سوء وإيذاء للكلبة الجميلة «قمر» وممن ؟ من أمها «بلبل» التي سرقت أولاد قمر , واحتلت مكانها في الوسعة القريبة من بيت قمر , وكلما اقتربت»قمر» لحماية ورعاية أولادها تهجم عليها «بلبل» وتخربشها في وجهها حتى بات كله ندوب وجروح .. أرأيت عزيزي القارئ كم هي مريم صانعة مجيدة لحرفتها وصنعتها , فقد أدخلت قارئها إلى عالمها التخييلي بكل أبعاده بإعطائه الخلفية العامة لها في العالم الذي يتجسد في الوسعاية التي تعيش فيها قمر وبلبل وولدها «ظريف» والأحفاد الذين سيصلون تباعا «مستكة» و «براون و سكر» إلخ .. وما يحدث لهم من مرض وموت , وحرصا منها على بقائهم أصحاء بتقديم وجبات ساخنة شهية لهم , وقيام ممرض طبيب كلبتها المدللة «لي لي» بتطعيمهم حتى لا يصيبهم السعار , ثم ها هي مريم تحكم ربط خيوطها وأحداثها التي ستنتج فيما بعد , ثم تكسب منذ وضع اللبنة الأولى لبنائها الدرامى – تكسب مشاركة قارئها في حدبها وخوفها وقلقها على قمر وإخوتها وأولادها ثم الأحفاد فيما بعد , فقد جعلت من المعركة الظالمة الناشبة بين قمر وأمها نقطة ارتكاز تبشر قارئها بنشاط وتتابع سردي ولتصبح بنية قادرة على تأسيس أرضية لقيام نص عليها وحاضنة على كل ما سيترتب على ذلك من أحداث لقمر وأسرتها الذين أصبحوا جزءا أساسياً من أسرة مريم .. تألم لألمهم وتحزن لموت من يموت منهم . وتسعى جاهدة للحفاظ عليهم من أذى ناتج عن تحرش الأطفال المارة بهم ورعونة سائقي السيارات المتهورين الذين خلت قلوبهم من ابسط مبادئ الرحمة .. بل وتحمل «مستكة» حفيدة بلبل وتذهب بها إلى عيادة صديقها الطبيب البيطري « بيرج» لعلاجها من مرض ألم بها .. ثم تحرص علي إعطائها « ال 3 سم من ديكال ب 21 « دواء الكالسيوم , ثم تدهن يديها بالكريم !! ثم هي تتصدى لسكان عمارتها الذين يرفضون بشدة أن يكون لقمر وأولادها وأحفادها مكاناً بينهم . ولا غرابة في ذلك فقد رسمت مريم لقمر وأهلها إطاراً جميلاً , فشبهت قمرها الأرضي بقمرنا السمائي , ومن فرط حبها لها وسعادتها برؤيتها فهي تبدو في نظرها كغزالة – بل وكبلرينا ذهبية الشعر, وليس هناك أجمل من ذلك , خاصة وأن البلرينا الإنسية تعد نموذجاً للرشاقة والجمال !! ويكتمل فن السرد عند مريم في أمرين متلازمين برعت مريم براعة فائقة لا يضاهيها فيها أحد في أحدهما ، بينما تترك مجالاً للتمني في الأمر الثاني وهما التفاصيل الصغيرة الدالة علي الصورة من ناحية وتماسك البنية الكلية للإطار من ناحية ثانية ، إذ تحرص مريم في صفاء ونقاء طفولي علي ذكر تفاصيل عديدة تتعلق «بحياة الكلاب» أو قل «بعالم الكلاب» وما يحدث لها من حوادث سيارات تقضى علي حياتها ظلماً وعدواناً ، وتقلب الطبيعة من شدة برد وارتفاع في درجة الحرارة ، مما لا يتفق وطبيعة الجراء منها , وهو ما كان يثير شفقة وعطف وقلق وحزن مريم ، وقل ما شئت من ارتفاع في وتيرة أحاسيسها نحو من أطلقت عليهم « أسرتها وأولادها وأحفادها» من عدوان بعضهم علي الآخر ، وخاصة ما كانت تتعرض له «قمر» من عدوان أمها «بلبل» عليها وخربشتها والتهام ما خصصته مريم لها ولأولادها من طعام ، ثم حرصها علي تطعيمها بأحدث ما أنتجه العلم من دواء حتى لا تتعرض للإصابة بالسعار بسبب عضة من كلب مسعور . ومن نماذج كتابتها التى تصور خوفها عليهم من تقلب الطبيعة تقول: «أصبحت فكرة الإمساك بشمسية لحمايتهم من الأمطار هي الحل الوحيد الآن ، وبالفعل هطلت الأمطار وأسْرَعْتُ إلي المنزل وأحْضَرْتُ الشمسية وفتحتها وظللت ممسكة بها لحمايتهم من المطر إلي أن توقف. ثم أخذت أقْتَرْبُ من الجراء فرأيت كلبين ميتين . انقبض قلبي وأخذتهما حيث قمت بدفنهما بالقرب من إحدى الأشجار. سألت نفسي ماذا أفعل؟ لو كنت أستطيع بناء كوخ خشبي لهم. لكني أعلم أن السكان سيرفضون ذلك حتى لو لم تكن لديهم أسباب وجيهة ، فمعظم المصريين والمسلمين يكرهون الكلاب لأنهم يتذكرون نجاستها ويتناسون أن رجلاً دخل الجنة لأنه سقا كلباً في خفه ، وأن إحدى بغايا بني إسرائيل فعلت نفس الشيء فغفر الله لها وأدخلها الجنة» .وذاكرة مريم كنهر لا ينضب معينه ، تكشف عن ظواهر من حياتنا الاجتماعية فيما يتعلق بعلاقة المصريين بحيواناتهم الأليفة ، وخاصة الكلاب. فتقدم لنا مريم معلومات وصورا تتدفق أمام عين القارئ في حس درامي ممتع وجميل كاشفة عن خفة ظل مريم وحسها الساخر،فهي غير مكتفية بمنحنا الفرصة لحسها الدرامي الذي يتجلى في طريقة تشكيلها ووصفها للمواقف والأحداث ، ولثراء وغزارة كنوزها اللغوية التي تتدفق في سهولة ويسر وصدق وإحساس طفولي جميل ، وهي سعيدة بالإطار الدرامي وما حوى من جماليات حديثة لم يعهدها القارئ من قبل فيما قرأه من سيرة ذاتية عند غيرها من الكتاب. وهذا يحسب لجودة الإبداع وحسن السبك للروائية الجميلة مريم ..التى تقدم لقارئ «قمر» متعة طفولية رقيقة وجميلة من مجرد طرحها والبساطة والصدق المحبب في أسلوب حكيها حتى أن لغة مريم في رقتها وعذوبتها وصدقها تشبه لغة شعر العامية الذي قرآناه عند آل جاهين والأبنودي ومحمد بهجت ، وكذلك بساطة تجاربها وشدة عنايتها وخوفها علي جرائها ، وواقعيتها وصدقها ، فضلاً عن حضور الموهبة القصصية بأدواتها السردية الراسخة.. فقارئ «قمر» تعتريه مشاعر العطف والرحمة والحنان علي هذا الحيوان الأعجم ، مع شياكة النص وتعدد تجارب مريم وحدبها ، ونداوة أحاسيسها التي تتدفق منها في صدق طفولي جميل يراعي دقة الوصف وأمانة النقل وطرافة التصوير وبراعة التشبيه ، فقدمت لقارئها بصدق وواقعية عالماً بعيداً كل البعد عن ذاكرة الكثير منا ،،