ولد علم الاقتصاد والحديث فى بريطانيا عند بداية الثورة الصناعية مع آدم سميث، وأرسيت معالمه الرئيسية مع الجيل الثانى من الاقتصاديين، خاصة ريكاردو ومالتس، اللذين وضعا أسس ماعرف «بالنظرية التقليدية» فى الاقتصاد. وقد غلب على تحليل كل من ريكاردو ومالتس الجانب التشاؤمى لهذا العلم الجديد، بعكس ماظهر من تفاؤل مع آدم سميث فى حديثه عن «ثروة الامم» فكان تركيز آدم سميث حول إمكانية زيادة ثروات الأمم عن طريق زيادة الكفاءة الإنتاجية، مع تقسيم العمل والتخصص فى التجارة الدولية نتيجة للمنافسة وفتح الأسواق، مما يساعد على التجديد والابتكار، وعلى عكس آدم سميث المتفائل، فقد ركز خليفاه (ريكاردو ومالتس) على أبرز الجوانب المعتمة للاقتصاد. سواء بالتركيز على مفهوم الغلة المتناقصة أو ثبات الأجور عند حد الكفاف (القيد الحديدى للأجور) أو خطورة الزيادة السكانية وعدم ملاحقة الإنتاج (خاصة فى الزراعة) لهذه الزيادة السكانية. وهكذا ظهر علم الاقتصاد فى بدايته فى صورة معتمة، حتى أطلق عليه «العلم الكئيب» the dismal science والسؤال من كان على حق؟ هل هو آدم سميث المتفائل، أم أن التاريخ كان أقرب الى تحقيق تنبؤات المتشائمين؟ بين العالم الصناعى والعالم النامي: اذا نظرنا حولنا الآن، وبعدما يزيد على قرنين ونصف قرن منذ ظهور مقولات هؤلاء الاقتصاديين، فإننا نجد أن التاريخ خلال هذه الفترة قد جاء مساندا لكل من الرأيين. فإذا نظرنا إلى الدول الصناعية المتقدمة فى أوروبا وأمريكا الشمالية ثم اليابان، ومن بعدهم وخلال العقود الماضية فيما عرف بالاقتصاديات الناشئة emcrging economies فى النمور الآسيوية وأخيرا الصين والى حد ما فى الهند والبرازيل، فإننا نجد أن آدم سميث كان إلى حد بعيد على حق، وأن الصواب قد صاحبه فى مقولاته. فالاقتصاد أظهر أنه بحق هو علم خلق الثروات للأفراد والدول. فمستوى المعيشة ارتفع فى هذه الدول بشكل غير مسبوق بالمقارنة بما كان عليه الحال قبل الثورة الصناعية. واذا كانت عدالة التوزيع لم تصل دائما الى مايرضى النفوس، فإن معظم السكان فى هذه الدول وخاصة الطبقة المتوسطة التى تكاد تضم غالبية السكان قد تحسنت أحوالهم المادية ويتمتعون بدرجة عالية أو مقبولة من خدمات البنية الأساسية فى الصحة والتعليم وحرية الانتقال وتداول المعلومات، بل والتأمين فى العديد من الأحوال. ولكن هذا النجاح الاقتصادى لم يكن من نصيب العالم فى مجموعه. فأغلبية سكان العالم العددية مازالت تعيش فى الدول النامية فى إفريقيا وقطاعات واسعة من آسيا وأمريكا الجنوبية. ومازالت أوضاعهم المعيشية بائسة. ولم يقتصر الأمر على عدم تمتعهم بمزايا الحضارة الصناعية، بل إنهم أصبحوا أيضا ضحايا لظروف بائسة جدت مع الحضارة الجديدة ظهرت فى تكدس المدن وتدهور البيئة المحيطة. ومن هنا، فإننا نستطيع القول أيضاً، بأن أفكار مالتس وريكاردو فى التضخم السكانى وعدم ملاحقة الانتاج له، وبالتالى توسع مظاهر البؤس، فضلا عن الجرائم الجديدة فى المخدرات والإرهاب. كل هذا تحقق فى ظل الاقتصاد الجديد، ولم يقتصر الأمر على سوء أحوال مجموعة هذه الدول الفقيرة، بل إن العالم فى مجموعه أصبح يواجه الآن على ماسنشير إليه بمشكلات متعلقة بالتضخم السكانى العالمى وتدهور البيئة، وبما يمكن أن يهدد الحياة نفسها. الاقتصاد يوضح الامكانات والقيود يتضح مما تقدم أنه لا يمكن القطع فى ضوء التجربة التاريخية لعلم الاقتصاد القول بأن هذا الفرع من العلوم هو «العلم الكئيب»، كما لا يمكن من ناحية أخرى الادعاء بأنه العلم المرح أو المتفائل. فالحقيقة ان الاقتصاد شأنه فى ذلك مثل العلوم الطبيعية والانسانية، لا يقدم روشتة للسعادة أو الشقاء، ولكنه يشير إلى «قوانين» وقواعد للنشاط الاقتصادى تربط الأسباب بالنتائج. فالعلم كل علم يبنى «الإمكانات» المتاحة من ناحية، «والقيود» الواردة عليها من ناحية أخري. ونجاح الإنسان أو فشله يرجع إلى حسن أو سوء استخدامه لهذه القوانين. فقوانين الفيزياء أو الكيمياء قد تساعد على زيادة قدرة الإنسان فى السفر والترحال، ولكنها أيضا قد تغريه بإلقاء القنابل الفتاكة للقتل والتدمير. فالمشكلة ليست فى العلم فى ذاته، وإنما فى كيفية استخدامه ومن يستخدمه وكيف؟ وإذا نظرنا إلى مقولات سميث من ناحية وريكاردو ومالتس من ناحية أخري، نجد أن آدم سميث قد ركز على جانب «الإمكانات» المتاحة من خلال التخصص وتقسيم العمل وما يترتب عليهما من زيادة الكفاءة الإنتاجية، كما أشار الى دور الحوافز الشخصية والمصلحة الخاصة من خلال المنافسة فى تحقيق الصالح العام من خلال نظرته الى ما أطلق عليه «اليد الخفية»، ولكنه بالمقابل لم يتجاهل أهمية دور السلطة والدولة. ورغم أنى مفهوم «السلعة العامة» لم يكن معروفا آنذاك فقد أكد سميث أهمية دور السلطة والدولة، فأشار فى كتاباته الى أهمية وجود سلطة قوية وقانون واجب الاحترام. وإذا كان آدم سميث قد ركز فى كتاباته على «إمكانات» علم الاقتصاد، فإن أتباعه سواء ريكاردو أو مالتس جاء تركيزهم على «القيود» بأكثر منها على «الامكانات». ومن أهم القيود التى تعوق حركة الاقتصاد على النحو المطلوب النمو السكانى غير المنضبط والذى يمكن أن يجاوز قدرات الاقتصاد. فتكون النتيجة مزيدا من الفقر بدلا من الثراء. وبالمثل هناك قيد الموارد، فكان تركيز التقليدين على قيود الأراضى الزراعية المتاحة فى مواجهة الزيادة السكانية المستمرة. ورغم أن الصناعة لا تعانى من قيود الزراعة، فإنها هى الأخرى تتوقف على مدى توافر مصادر الطاقة. وهناك على ما ستشير اليه، المخاطر المترتبة على كل من الزيادة السكانية والإنتاج الصناعى على البيئة. وفى اطار الحديث عن «قيود» الاقتصاد، صدر كتاب مهم فى الربع الأخير من القرن العشرين من نادى روما، بعنوان «حدود النمو» LIMITS TO GROWTH (1972). وأشار الى مظهرين من هذه القيود، وهما الزيادة السكانية من ناحية والتدهور البيئى من ناحية أخري، وهما أيضا مرتبطان فزيادة السكان تؤدي، عادة الى تعريض البيئة لمخاطر كبيرة، واذا كان مالتس قد استخدم مفهوم «المتوالية الحسابية» و«المتوالية الهندسية» للتعبير عن الزيادة السكانية الكبيرة والتى تجاوز قدرة الانتاج (الزراعي) على مجاراة هذه الزيادة السكانية، فجاء كتاب حدود النمو واستخدام مفهوم النمو الأسس EXPOMENTIAL. أما المتواليات التى أشار اليها مالتس فهى نوعان، هناك المتوالية الحسابية وهناك المتوالية الهندسية. أما «المتوالية الحسابية» فهى سلسلة من الأرقام يزيد كل رقم فيها عن الرقم السابق عليه بإضافة عدد معين. فالأرقام 97،5،3،1.. هى متوالية حسابية يزيد كل رقم عما يسبقه باضافة عدد 2. أما «المتوالية الهندسية»، فانها هى الأخرى سلسلة من الأرقام ولكن كل رقم يزيد عن الرقم السابق عليه بضربة فى رقم معين. فالأرقام 168421.. هى متوالية هندسية وكل رقم فيها عبارة عن ضعف الرقم السابق عليه.. وكانت فكرة مالتس أنه على حين تزيد انتاجية الزراعة بشكل قريب من «المتوالية الحسابية»، فان عدد السكان يتضاعف بنوع من «المتوالية الهندسية» وكلنا يتذكر أن عدد سكان مصر عندما تولى حسنى مبارك الحكم فى بداية الثمانينيات كان نحو 42 مليون نسمة، وبعدها بثلاثين عاما وعندما ترك الحكم جاوز عدد السكان 85 مليونا، وعلينا أن نتصور ماذا يكون الوضع عندما يتضاعف العدد مرة اخرى فى ثلاثين عاما!! ويكفى أن نتذكر هنا تاريخ تزايد اعداد البشرية. فيذكر علماء تطور الأجناس أن ظهور الإنسان (العاقل) homo sapiens sopiens قد خرج من افريقيا الى أوراسيا (اوروبا وآسيا) منذ نحو 120 140 ألف سنة فى شكل قبيلة أو عشيرة افريقية ولم يزد عددهم على ألف شخص. وهذه هى بداية انتشار الانسان فى أرجاء المعمورة. ومنذ ذلك الحين بدأ التزايد السكانى حتى وصلت البشرية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الى رقم المليار نسمة. والآن وبعد أقل من قرن وربع القرن جاوز عدد سكان المعمورة سبعة مليارات نسمة. ومعنى ذلك أن البشرية احتاجت الى 120 140 ألف عام حتى تصل الى المليار الأول لعدد السكان، وفى أقل من قرن وربع تضاعف هذا الرقم أكثر من سبعة أضعاف. هذه هى خطورة النمو الأسى او المتوالية الهندسية. هذا عن خطر الانفجار السكاني، فماذا عن مخاطر البيئة؟ لايختلف الأمر كثيرا. ففى البداية كانت معدلات التدهور محدودة، ولكنها ومع مرور الزمن ازدادت حده على نحو مشابه لما حدث مع السكان. وقد يكفى أن نشير هنا الى بعض المؤشرات. فمثلا هناك احتمال لتزايد معدلات ثانى اكسيد الكربون الى الضعف نحو سنة 2050. ويرى بعض العلماء أن نسبة ثانى اكسيد الكربون الحالية لم تعرفها الكرة الأرضية منذ حوالى ثلاثة ملايين سنة. كذلك ارتفعت درجات الحرارة بأقل قليلا من درجة مئوية منذ قيام الثورة الصناعية. ومع ارتفاع درجات الحرارة. فهناك مخاطر على الإنتاج الزراعى الغذائى ومدى توافر المياه العذبة، كما هناك خطر ارتفاع مستوى سطح البحار.. والقائمة طويلة. اكتشافات الغاز والتفرقة بين «الثروة» و«الدخل» فى إطار الحديث عن علم الاقتصاد ومقولاته، كيف نستفيد منها إزاء ما أعلن من اكتشافات حديثة عن مؤشرات قوية عن حقل هائل للغاز الطبيعى فى الشواطئ المصرية للبحر المتوسط. فماذا يقول علم الاقتصاد للتعامل مع هذا الوافد الجديد. يفرق الاقتصاديون بين مفهومين كثيرا ما نقابلهما فى تعاملنا مع الاقتصاد، وكثيرا ما يؤدى عدم الوضوح فى تعريف طبيعتهما إلى مشكلات كبيرة فى المستقبل. فعندما يتحدث عن اكتشاف مورد جديد للغاز، أو للبترول، فكيف ننظر إليه، وعلى أى أساس نتعامل به إزاءه؟ وأود هنا إذ أركز على التفرقة بين مفهومين فى الاقتصاد، وهما مفهوما «الثروة» و«الدخل». وهما أمران مختلفان، وإن كانت بينهما رابطة قوية. «فالثروة» هى التى تولد «الدخل». فالأرض ثروة وهو تساعد على توليد دخول عند استخدامها فى الزراعة أو فى الإسكان أو الصناعة. وكذا المصنع ثروة وهو يولد دخلا عن طريق ما ينتجه من سلع أو خدمات. وهكذا، فهناك علاقة بين «الثروة» و«الدخل»، و«الثروة» هى مصدر الدخل. و«الدخل» هو عائد مستمر خلال الزمن. ولذلك فعندما نتحدث عن «الدخل». فإننا نتحدث عن مفهوم له بعد زمني. فاننا نتحدث عن الدخل فى الشهر أو السنة، أما الحديث عن «الثروة» فهو حديث عن شئ له قيمه الآن. وهكذا يميز الاقتصاديون بين نوعين من الكميات الاقتصادية. فهناك ما يطلق عليه الأصول أو الأرصدة Stocs، وهذا هو وضع «الثروة». ولكن هناك كميات أخرى لها بعد زمني، ويطلق عليها تدفقات Flowr، وأهم مظاهرها «الدخل» أو «العائد». فعندما نتحدث عن أرصدة نتحدث عن قيمة اقتصادية فى اللحظة. فالأرض ثروة، وبالتالى لها قيمة حالة، وكذا الحال بالنسبة لرأس المال من مصانع ومنشآت. أما الدخل فانه يعرف بعنصرين القيمة والمدة الزمنية. فأنت تتحدث عن دخلك بمبلغ كذا فى الشهر، والسنة. ويعرف المحاسبون هذه التفرقة عندما يتحدثون عن الميزانية وحسابات الدخل، فالميزانية نتحدث عن أصول المؤسسة فى لحظة معينة، فى حين أن حسابات الدخل تتحدث عن التدفقات المالية خلال فترة معينة. وهنا يثور التساؤل هل عائدات البترول والغاز من قبيل الأرصدة والأصول، أم هى من قبيل الدخل والعائد. وهذه التفرقة تترتب عليها نتائج، فإذا كان النفط والغاز هو من قبيل «الثروة»، فانه لابد من الحفاظ على قيمهما، واستخدامهما بما يحافظ على قيمتهما من ناحية وبما يوفر عائدا مقبولا مع بقاء تلك القيمة غير منقوصة. أما إذا كان هذا المصدر الجديد هو من قبيل الدخل، فإنه لا مانع من إنفاقه. ففى المفهوم الأول الاعتبار الأساسى هو الاحتفاظ بقيمة هذه «الثروة» واذا كان الممكن استبدالها بأشكال أخرى من الثروة. فاستخدام هذه العوائد لتمويل استثمارات من مصانع أو طرق، يعتبر احتفاظا بمفهوم الثروة مع تغيير شكلها لكى توفر عائدات أكبر. أما فى المفهوم الثانى باعتبارها دخلا فلا بأس من إنفاقها والارتفاع بمستوى المعيشة الحالى نتيجة ظهور هذا المصدر الجديد للدخل. وقد واجهت معظم الدول النفطية هذه المعضلة، واتجه معظم هذه الدول خاصة الخليج العربى الى اعتبار عائدات البترول من قبيل «الدخول»، وبذلك تدخل فى ميزانية الدولة وتعامل معاملة مصادر هذه الميزانية للإنفاق سواء على النفقات الجارية (خاصة الأجور والرواتب) أو النفقات الاستثمارية. وعلى العكس من ذلك، فإن دولة النرويج عندما واجهت هذه المشكلة، فإنها بعد دراسات وافية انتهت الى القول بأن هذه العائدات هى مقابل استهلاك ثروة طبيعية فى باطن الأرض، ولذلك فلابد من استخدام عوائد البيع فى تكوين استثمارات أخرى مالية أو صناعية، وذلك حفاظا على ثروة الأمة. وهكذا حرصت النرويج على إبقاء عائدات بيع النفط بعيدا عن الموازنة الجارية والإنفاق الاستهلاكي، وخصصت لتكوين محفظة استثمارية يمكن الاستفادة من عائدها. والنتيجة التى أود أن أخلص بها، هو أن الحكمة تقتضى أن ننظر الى عوائد البترول والغاز باعتبارها مقابل إهلاك مصادر للثروة القومية، ولذلك يجب أن تستخدم العوائد الصافية لهذه الاستثمارات فى الاضافة الى الثروة القومية وليس تبديدها فى إنفاق جار على الأجور والرواتب مثلا. وقد يكون من المفيد أن نقيد عوائد هذه «الثروة» فى موازنة خاصة للاستثمار بعيدا عن الإنفاق الجاري. الغاز هو ثروة فى باطن الأرض يملكها المصريون فى الحال كما فى الاجيال المستقبلة. هذا ما يقضى به المنطق الاقتصادى السليم، وهى خلاصة المقارنة بين «العاجل» و«الدائم». والله أعلم لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي