كان لابد تقديراً للراحلة العزيزة الا أقصيها من حياتى معتذراً برحيلها ، فما بيننا لاتهزه رياح فقد ، ولا أعاصير فراق ، لذا فقد قررت الا يتأثر وجودها بالغياب ، بل تظل كما كانت ملء العين والقلب . طلبت من المصور صوراً بعدد حجرات البيت بالحجم الطبيعى لها ،على أن تناسب الصور طبيعة الحجرات ، ففى المطبخ مثلاً صورتها وهى تقف أمام الموقد ، التقطتها بنفسى فى لحظة مداعبة ونحن نخوض غمار نقاش حول من منا سيرحل عن الوجود أولاً ، لحظتها أذكر قالت: أدعو الله سبحانه أن يكون يومى قبل يومك . ضحكت منها مؤكداً أن هذا محال ، فهى أكثر شبابا وأقل مرضاً ، ثم أنها وتد هذا البيت، بدونها ينهار السقف على من تحته من الكائنات التعسة . أعلنت بسمتها عن رضاها عما قلت ، أسرعت الكاميرا لتسجل هذه اللحظة . ............................ أما صورة حجرة النوم فتبدو فيها وهى متهللة الوجه ، اذ فاجأها الألم على حين غرة ، فاقتربت منها وأنا أقول لها جاداً : هاتى ذاك الألم اللعين أحمله عنك ِ . ومددت كفى أريد حمل قلبها المتغضن ، أريد استخراج الألم منه ، فتحول العبوس الى ضحكة صافية ، أسرعت الكاميرا الى اقتناصها . .......................... أما صورة حجرة الطعام فتلك حكايتها حكاية ، بدا على وجهها لحظتها بريق اهتمام ، اذ كنت أحدثها عن حلم ٍ رأيته ليلاً ، كانت فيه الى جوارى منبسطة الوجه ، متألقة العينين ، نضرة الملامح ، وانا أقود السيارة كالمعتاد ، لكن فى مسار لا أرى له أرضاً ، بل هو فضاء مفتوح ،وصفاء شامل ، وسكون لا يقطعه ضجيج ، وموسيقى تنبع من روح الوجود ، تضمنا ونحن نمضى ، لاندرى إن كنا نطير والنجوم حولنا ، أو نسير والمروج تلاحقنا ، أدرت نظراتى غامساً روحى فى نهر الصفاء حولى ، سابحا بذرات كيانى فى بهاء يشملنى ، ويبعث فى خلاياى سلاماً مابعده سلام ، استدرت أحادثها كما تعودت معها مذ صرنا وحدنا فى البيت بعد أن غادرنا الأولاد كل فى طريق ، قاصداً أن أحكى لها مالدى ّ ، لم تكن هناك ..!! هتفت باسمها منزعجاً ، متعجباً من ذلك الغياب الغريب ، فلا العربة توقفت لكى تهبط منها على مهل كعادتها فى الأيام الأخيرة ، ولا أنا نائم أو رحت فى غيبوبة قصيرة كما صار يحدث لى الآن لتغيب دون أن أدرى بها .ارتفع صوتى بالنداء ، انطلق الصوت فى براح الفضاء ، تناقلته المسافات ، وقلبى معه يرتجف ، وروحى تنتفض ، وعيناى كما اعتادتا أخيراً تنهمر منهما الدموع قسراً ، والصوت يجوب الأفاق .. جاوبتنى فزعة : -مابك ؟ انتبهت اليها بجوارى ، تمسح عينى وتسألنى متلهفة عما رأيت ، حكيت لها ما كان ، اتسعت عيناها انفعالا مع كلماتى ، لا أدرى لحظتها كيف تمالكت أعصابى وهمست للكاميرا راجياً أن تسجل تلك اللحظة . ................... أما فى الشرفة فقد بدا الأمر مختلفاً لأنها تطل على الكون ، والأعين عادة تترصدها ، لذا فمن الأوفق الا أعرضها عليهم ، بل احتفظ بها كنزاً يخصنى وحدى .. قمت بوضع أستار سميكة حول السور كحائط صد لكل من تسول له نفسه التسلل بنظراته خلسة الينا .. كان بالشرفة مقعدان بينهما مائدة صغيرة للشاى ، أبعدت مقعداً ووضعت مكانه صورتها وهى تجلس أمامى وبيدها كوب الشاى ، كانت لحظتها فى أيامها الأخيرة وقد بدا لروحها أن تعلن الاستسلام ، الوجه هاديء التعبير ، نابض ببسمة ضعيفة الرنين ، فى إطار من شحوب يضم السمات ، بينما العينان تهيم نظراتهما الباهتة فى كون غير كوننا ، ترى فيه ما لا أراه ، وتسمع منه ما لا أسمع .. ناديتها ، رنت بعينيها لوجهى طويلاً ، لم تستطع بسمتها الاتساع قليلاً للكاميرا التى بادرت لتسجل اللحظة . .................. أتممت مهمتى كما أريد . شعرت بهدوء يشمل روحى . غير أننى بعد حين رأيتنى أرفع السماعة ، أقول لولدى ً وعيناى كما اعتادتا أخيراً تنهمر منهما الدموع قسراً : تعبت من البقاء وحدي